عن الخوف كتب أرسطو: "الخوفُ ألمٌ نابعٌ من توقعِ الشر"، "بشر يُحْكَمُون بالخوف أكثر من المهابة".
في الظلام أشعر باختناقٍ شديد يملأ صدري وكأن هناك مَنْ يسحب مني شريان الحياة وينزعه مني نزعاً، إنه الخوف من الظلام، الخوف بشتى أشكاله الذي يتملكنا جميعاً، الخوف من المجهول ومن أن نبدأ حياة جديدة، الخوف من الفقد، الخوف من أن ننهي علاقة فاشلة ومن الدخول في علاقة جديدة، الخوف على الرزق والحبيب والأهل والوطن، الخوف من المرض والشيخوخة وظلمة القبر.. الخوف من الله.
الخوف الذي جعلني أعتاد النوم تاركةً باب غرفتي مفتوحاً في محاولة للشعور بالأنس الذي كان سبباً في كشف رفيقة سكني على حقيقتها عندما لمحتها في إحدى الليالي تفتح درجي الخاص وتسرق نقودي، للأسف ثقتي كانت بغير محلها، والدرس الأول لي في الغربة "ألا أثق بأحد".
بعد شهر من التدريب على إجراءات الأمن والسلامة والإسعافات الأولية، أخبرنا مدربنا بأن علينا السفر لدبي لاجتياز الاختبار والحصول على رخصة الطيران الدولية، أثناء حديثه التفت و أشار إلى لوحة مُعلقه خلفه وهو مبتسم ابتسامة شيطانية.. اللوحة مرسوم بها طائرة تغرق وسمك القرش بالأسفل في انتظار الضحايا، وكأنه يتنبأُ لنا بهذه النهاية، كان من الأشخاص الذين يمتصون منك طاقتك الإيجابية ويبث في روحك الشعور بالضيق والاختناق، كم كرهت محاولاته لزرع الخوف داخلنا من فكرة الفشل والعودة لبلادنا، ومن فكرة السقوط في المحيط ومواجهة أسوأ مخاوفنا التي كنت أستشعرها كلما نظرت لتلك اللوحة التي ذكرتني بفيلم (open water) إنه الكابوس اللعين الذي ظل يراودني طوال سنين عملي وأسوأ مخاوفي.
ينصحُ الكثير من أطباء علم النفس بأن نواجه مخاوفنا ومعالجة أنفسنا من الرهاب من أشياء قد تكون غير حقيقية، لكني كنت أعالج نفسي بتشتيت أفكاري سواء بالحديث مع لينا عن خطيبها المولع حباً بها أو بدندنة بعض الأغاني المحببة لقلبي، كم كنت أحسد لينا على تلك العلاقة الجميلة التي كنت أشاهدها في الأفلام فقط، كم من مرة ذكرت لها ذلك وكانت تستقبل كلامي بابتسامة جميلة وبدعوة لي أن أعيش تلك الحالة من الهُيام، كانت دائماً خائفة من أن تفقد حب خطيبها لها بسبب البعد مرددةً: "البعيد عن العين بعيد عن القلب"، البعد قادر على أن يقتل إحساس الحب والشوق، كم من قصص حب انتهت بسبب البعد، كان الخوف من خسارة حبيبها يدفعها لمحادثته يومياً صباحاً ومساءً، وكانت متعتي الاستماع لحوارهم الجميل باللكنة السورية الرقيقة.
بعد صعودنا الطائرة في طريقنا لدبي التفت لنا مدربنا قائلاً: أريد منكم ملاحظة طاقم الضيافة وهم يقومون بتأمين الطائرة وتقديم الوجبات، أريد منكم تقييمهم، طاقم الضيافة كانوا مهتمين جداً بنا وبتقديم شتى الخدمات، ولكني لاحظت تلك الابتسامة الصفراء على وجوههم ونظرة مرتعشة في عيونهم، إنه الخوف، الخوف من مدربنا الذي يشكل لهم مصدر تهديد، فهو يراقبهم مثلما يراقب الصقر ضحيته، وكأنه يتلهف للانقضاض عليهم، للأسف تمتلئ الشركات والمؤسسات بتلك الشخصيات القاتلة للروح، التي تسحب منك كل طاقتك وتحولك لكائن ميت تقوم بكل شيء دون متعة، وتحولك لشخص تعيس خائف من فقدان مصدر الرزق.
وصلنا لمبنى الطيران وبدأنا الاختبار بركوب طائرة سيميليتور مثل ألعاب 3D والجلوس داخلها، حيث ظهر فجأة دخان كثيف والكل صرخ من الخوف وقف المدرب وبدأ في توضيح كيفية التحرك في وجود دخان والتنفس من خلال ملابسنا وكيفية فتح الباب في حالة الطوارئ وإخراج الركاب ومحاولة إنقاذهم جميعاً.
شعرت بالاختناق الشديد وخُيّل لي أني سمعت دقات قلبي وقلوب الفتيات كلهن لدرجة أنني حاولت الصراخ ولم أستطع، تملكني الخوف بشدة، كانت حركة الطائرة كأنها حقيقية والأفكار كلها في عقلي تدور حول ماذا لو حدث هذا بالفعل!
بالتأكيد لن أستطيع التحرك من مكاني، لن أتذكر كل تلك التعليمات ولن أهتم حتى بتذكرها، عندما يكون الخوف هو سيد الموقف لا تسألني ماذا سأفعل، الخوف يشلّ تفكيرنا ونتصرف دون وعي في محاولة للبقاء حتى لو على حساب الآخرين، ومن الخوف ما قتل.
بعد عودتنا للمنزل فاجأتني نغم، رفيقة السكن الأخرى، بقرار عودتها إلى مصر، لم تستطع نغم التغلب على شعور الوحشة والوحدة، خوفها من البعد والوحدة أثر على حالتها النفسية، لم تكن سعيدة ولم تشاطرنا لحظات جنوننا، كانت منزوية دائماً وكنت أخشى أن أُثقل عليها باقتحامي خلوتها، لكن من الواضح أنها كانت تحت تأثير الخوف الذي جعلها تدرك أن الحياة أقصر من أن نعيشها بعيدين عن أحبائنا، آثرت العودة للحضن الآمن الذي يقيها من الشعور بالخوف من الغد المجهول.
كم منا تملّكهُ الخوف وأثّر في قراراته وخططه المستقبلية، وكم منا واجه مخاوفه وقضى عليها!
لو كان الخوفُ رجلاً.. لقتلته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.