قبل أن أكتشف الحقيقة كنتُ أعتقد أن الأصدقاء والطيبين للفضفضة، للأسرار الثقيلة التي عليها أن تقتسم على اثنين حملها، للاتصالات المختنقة التي ننفجر فيها بالبكاء عند كلمة " ألو" للاعترافات المُخجلة، للأيام الكئيبة التي لا نريد فيها مواجهة العالم بقناع مبتسم، للجنون الذي لا نمارسه عادة حين نكون بخير.
أعلم الآن أنني كنت مخطئة.
الذي قال "الصديق وقت الضيق" أتخيله وقد لفظها في زاوية مقهى وهو يشرب قهوته مُلقّمة بملعقتي "وِحدة" وهو يتمنى صديقاً للضيق!
أريد أن أخبره أن ذنب خيباتنا معلّق في رقبته، وأنه كان عليه أن يصمت؛ لأن البعض ساذَج ويُصدّق.
مهلاً لحظة.. كلامي الآنف الذكر ليس إنكاراً لوجود هؤلاء الأصدقاء..
بعض الصحب قلوبهم فضفاضة شفيقة لكأنها قطعة من الجنة، فالعلة ليست في الصديق، بل في فكرة تحمُّله للضيق كي نمتحن صدقه، في فكرة البوح التي تناقلنا فعاليتها كمُسكّن، وتمجيدنا لفكرة أن الذين نحبهم يجب عليهم احتمال السوء فينا بحجة الحُب، وأن يروه بالإكراه وإن كان في ظاهره ليس كذلك – شيئاً جميلاً.
سيتعاطف معك من تشكو له، سيهز رأسه بالفهم لك.. لكن الواقع أنى له أن يفهم ويدرك كل هذا الهم الهائم بك.
يزداد الأمر سوءاً حين يُشعرك أنك قد تبالغ وتبدأ في تصعيد الأحداث لتجعله يفهم ويشعر وتُمَنّي نفسك بفكرة البوح.
ثُم وحين ينفض كل شيء تشعر بتلك المرارة في حلقك، وقد تشعر بخفة، ولكنها خفة شخص فارغ حتى من نفسه!
لماذا لا نترك الأصدقاء الطيبين للفرح، للأيام المشمسة التي نأخذ فيها بيده ونبتهج، للجمال،، للحب وليس لنمتحنه أو نثقله أو نلومه على عدم فهمه وغيبته؟
هذا لا يعني أن نكون ككتب مُغلقة تتصنع فرحها، أتكلم عن اللجوء الأول والإفراغ من كل سلبي، أن يكون الصديق المحطة الثانية حين لا يُصبح وجعنا ثقلاً عليه، حين يُصبح قرباً وراحةً وثقة وليس إغراقاً له بكل سلبي!
هذا ما جال بخاطري في اللحظةِ التي طلبت مني صديقتي أن أكتب لها عن الصداقة، وهنا أقول لها ولكم أيا أصدقائي:
لو كان أحدكم يمتلك صديقاً يتذوق معه الجمال في رحاب الله فليمسك به، بل ليتمسك به تمسُّك الذي يخشى تفلُّته فيهلك دونه.
لو كنتم تجدون صديقاً يُحرّك في نفوسكم قدراً كبيراً من الحب ويحفزكم إلى المسارعة، فلتصبوا به على قلوبكم نميراً لا ينضب ولتتمسكوا به تمسُّك الذي يأبى أن ينفلت من الحياة فيسقط في الموت سقطة أخيرة.
لو كنتَ يا صديقي اخترتَ صديقاً يتجاذب معك أطراف الحديث فيدُس لك من بينه حثّاً نبيلاً على جهاد نفسك في طبعٍ لا يليق بك أو تعليماً خفيّاً ذكياً بكيفية ترك ذنب صعب تركه، أو خصلة لا تصلح لأمثالك وطال مكوثها في صحيفتك أو يَدس لك صدقة يجبرك على فعلها، أو يقترح اقتراحاً يحثك به على التألق، أو يشكرك على بادرة حلوة تجاه صديقٍ آخر، أو يدعم لك مشروعاً رائداً ولو بفكرة، أو حتى لو يستمع إلى ذكرك إنجازك باهتمام لطيف مُتقَن، فهذا إنما هو النافذة التي يطلع منها وجهك كطلعة قمر.
فالذي يجعلك جميلاً مُضيئاً ذا ذائقة أنيقة هو حياتك في روح أخرى، فلا ترتكب فيه التهلُكة.
الذي يكره لك سواد الحزن، ويحب فيك ربيع الحُسن، الخطأ منك عنده فرصة لأجر التأثير، والخطأ منه عليك فرصة لجمال التغيير، يثريك ابتسامة ويشريك استقامة وينبتك للعالم فرحاً وفألاً حسناً.. إن كنت تملك هذا الصديق فأنت حي مرتين.
صديقي.. هنيئاً لك هذه البركة المغروسة في أصل قلبك، ولا تنسَ أنك تختار الشخص الذي يشاركك جينات متقاربة مع جيناتك ليكون صديقك.. فتمسك به وعَضَّ عليه بالنواجذ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.