تداولت مواقع التواصل فيديو للممثل والمخرج الأميركي وودي آلان، يتحدث فيه عن أهمية تشتيت الانتباه، وشغل النفس بكل وسيلة ممكنة عن التفكر في معنى حياة ستنتهي لا محالة، وسيفقد المرء في النهاية كل من أحب!
يجد وودي آلان أن أفضل وسيلة كي لا يتفكر الإنسان بمن هو، وما معنى وجوده وحياته وآخرتها -هذا التفكير الذي غالباً ما سيقوده للإيمان بالله- أفضل وسيلة لشغل النفس عنه هو: تشتيت التفكير وشغل النفس دائماً بالملهيات!
وعن نفسه يقول إنه يشغل نفسه بصناعة الأفلام والتفكير بالمشاهد والممثلين ليؤدوا أفضل الأداء، وأن أسوأ ما يمكن أن يحدث وهو في تلك الحالة من تشتيت الانتباه هو أن يفشل أحد أفلامه!
وليكن، فلن يجعلني ذلك أموت!
إذن، فإن الخوف الأكبر لدى شريحة كبيرة من العدميين والملحدين هو فكرة نهاية الحياة! الموت، بوصفه عدماً، أو انتقالاً إلى مكان سيّئ!
إن التفكير بكون الحياة لها نهاية، وتلك النهاية يمكن أن يكون لها عاقبة، وبأن وجودهم فيها ليس عبثاً أو خبط عشواء، أمر يصعب جداً عليهم مواجهته، ويفضلون بدلاً من ذلك الهرب منه بـ:
تشتيت الانتباه!
فَلَو جلس أي إنسان سوي الفطرة بعيداً عن الملهيات قليلاً؛ ليتفكر لقَادته فطرته لمعرفة الله، وإدراك الغاية من الحياة، والإيمان!
تذكرت الآية القرآنية التي دأب علماء الدين على تفسيرها، وتفسير معناها بالغناء:
(ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم)، لكنني اليوم وأنا أسمع ذلك الكلام، وأفكر به وبما أشاهده من واقع الناس حقيقة وعلى طول السنوات:
أجد أن لهو الحديث الذي يضل عن سبيل الله بغير علم، ينطبق على أغلب ما يتم تداوله ومشاهدته والاستماع إليه عبر وسائل التواصل (التدابر) الاجتماعي، التي أبعدتنا حقيقة عن معنى التواصل الحقيقي، وينطبق لهو الحديث الذي يضل عن سبيل الله على تسعة وتسعين فاصلة تسعة من المسلسلات والأفلام والبرامج التلفزيونية أيضاً، إلا ما ندر من أعمال نبيلة هادفة مفيدة ممتعة، غاياتها نبيلة ووسائلها نبيلة.
أما ما عدا ذلك مما حشونا به دقائق وساعات يومنا، مما نسمع أو نبصر فنشغل حواسنا بتلقيه وإدراكه، فمهمته الأولى هو الإلهاء distraction وتشتيت الانتباه عن أهم حقائق وجودنا، والأسئلة الوجودية الكبرى التي تحيط بِنَا، بل عن تأمل أنفسنا وحقيقتها، وحقيقة الآخرين وطبيعة علاقتنا بهم وبالوجود، بل وبخلاف الوجود كله!
لو وقفتُ اليوم في الشارع بشكل عشوائي وسألت الناس:
لماذا أنت حي؟
ما هي الغاية من وجودك في الحياة؟
كيف تعمل على تحقيقها؟
يا ترى كم منهم مدرك للغاية الحقيقية من وجوده وخلقه؟
ومن كان مدركاً بالقول، ولنفترض أنه أجاب:
إنني مخلوق في الأرض لعبادة الله.
يا ترى ماذَا فعل حقيقة ليعبد هذه الأرض لله!
هل عرف نفسه أولاً، هل عرف الله حقيقة؟
هل عرف بعد أن عرف الله وعرف نفسه، نقاط قوته فسخرها في عمارة الأرض ونفع الناس؟
يا ترى كم هي نسبة البشر بيننا المتوجهين في الزمان والمكان نحو هدف نبيل سامٍ، مستعدين لمواجهة الصعاب ومغالبة الخلق والصبر عليهم حتى يحققوه، فيقودوا زمام التغيير والنهضة في مجتمعاتهم؟
كم هي نسبة أولئك الذين أدركوا عمق حقيقة معنى الحياة، والإيمان، والصلاة والالتزام، بوصفها رحلة للاستخلاف الصالح في الأرض والعمل فيها: بِسْم الله الرحمن الرحيم، ففهموا معنى العبودية، والبنوة والأخوة والزواج والإنجاب والغاية من العلم والعمل، والأخوة بين بني البشر أجمعين، دون أن يرى لنفسه فضلاً على بشر سوى بالتقوى، والتي يعلم بها الله وحده!
حسناً، سنسهل الموضوع: دعونا نسأل أسئلة عن أشياء أبسط من ذلك بكثير، مثلاً: هل تصبح المرأة المسلمة نجسة أثناء الحيض؟
هل تعرف المعوذات؟
من هو سيف الله المسلول؟
كم تتوقعون نسبة الأشخاص القادرين على أن يجيبوا إجابات صحيحة عن تلك الأسئلة!
إنه الجهل والشتات وفراغ العقل الممتلئ بالملهيات الفارغة بلا أية وعي أو علم حقيقي، للمعلوم من الدين والحياة بالضرورة!
التشتيت الذي تم التخطيط له بعناية، ودس السموم داخله، أصبح يسمم حياتنا كلها:
فالإعلانات على الشاشات ورمضان بات على الأبواب، أغلبها تحتوي على إيحاءات جنسية!
والمسلسلات العربية أصبحت تنافس المسلسلات التركية والأجنبية في العري، والإباحية والترويج للخيانة الزوجية كأمر عادي جداً! ناهيك عن الأكثر عادية منها وهو العلاقات المفتوحة حتى أقصى الحدود بين الشبان والشابات، ولا بأس إن حدث حمل غير شرعي، وشرَّف على الدنيا ولد لا نعرف من أبوه! فكل هذا له حل وهو مقبول في مسلسلاتنا قبل مسلسلاتهم!
أما وسائل التواصل الاجتماعي، فهي الوسيلة المثلى للتشويش، وشغل النفس على ما فيش!
هل سألت نفسك ونفسي، أيضاً في نهاية كل يوم:
ما هي الفائدة التي حققتها، أو جنيتها بعد إنفاق كل تلك الساعات؟
هل يستحق هذا العالم الافتراضي مني كل هذا الوقت؟
هل هم أصدقاء حقيقيون من أضيع الوقت في قراءة ترهاتهم، على الأغلب؟
هل تعلمت فعلاً شيئاً جديداً، أم ضللت وأنا أخدع نفسي بوهم العلم؟
من أنا؟ من هم؟ ماذا نريد؟
وإن كنت تستخدم تلك المواقع لمعرفة أخبار المجازر والحروب: هل أفادتك معرفتك تلك شيئاً سوى زيادة الحزن والكدر واجتياح اليأس والعجز، دون القدرة على فعل شيء؟!
أليس الأولى المبادرة للفعل، ولو فعلاً صغيراً للمساعدة أو التخفيف من الألم أو زيادة الوعي بدلاً من زيادة الشعور بالحزن واليأس!
أوليس الأولى من كل ذلك التشتيت:
جلسة خلوة تتأمل فيها مع نفسك وتخلو بعيداً عن البشر كل البشر وتفكر!
الخلوة والعزلة والتأمل كانت المرحلة التحضيرية لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء، كما كان رعي الغنم بعيداً عن المدينة سمة لم تفارق نبياً من الأنبياء.
إن الانسحاب والابتعاد عن المشتتات والملهيات والاختلاء بالذات، هي الخطوة الأولى لمعرفة حقيقة الحياة ومعناها ومعنى الذات والوصول لمعرفة الله عز وجل حقيقة بالقلب والعقل.
هناك بعيداً ربما في الصحراء أو على شط البحر أو في تمشية على شط النهر أو في غابة:
اسمع صوت ذاتك، تساءل، تفكر، راجع.
اسمع صوت الله في داخلك!
ذلك الصوت الذي سمعه إبراهيم اليافع بفطرته السوية، التي لم تشوهها وتشتتها المشتتات؛ لأنه ابتعد عن تأثير مجتمعه العابد للأصنام، وانسحب يتأمل الكون والحياة والطبيعة فقاده ذلك للبحث عن القوة العظمى التي تدير الكون، فأخذ ينقل بصره، بين كل الكائنات الكبرى التي يراها، ثم أدرك أنها لا تصلح لتكون هي الموجد لهذا الكون، وعرف أن وراء كل هذه الموجودات خالقها وموجدها وإليه منتهى الوجود.
إن الفطرة السليمة تقود للإيمان والخير، ولكن المجتمعات ووسائل الإلهاء والتشتيت تحاول تشويهها؛ لذلك فإن الانسحاب بعيداً لفهم الذات والوجود ومراجعة كل ما يدور حولنا من عادات وتقاليد تعارف الناس عليها، ويغلب شرها على خيرها، ولكن لا يجرؤ أحد على تغييرها، بل ربما لا يفكر به لمسخ الفطرة العام الشامل الذي أصاب مجتمعاتنا! إلا ما رحم ربي!
إن إلغاء العقل وتشتيته وحشوه بالمعاني التي تم تشويهها، قد شوه أجمل ما في حياتنا من معانٍ وقيم:
فغدت صلاتنا وعبادتنا وتلاوتنا وإيماننا آلياً لا روح فيها! بل استطاع البعض حرف ذلك الإيمان والتلاعب به لمصلحة الشر الكامن في نفوس بعض مرضى القلوب!
التشويه طال علاقاتنا فغدت باردة سطحية نفاقية فيها الكثير من الظلم والحسد والغيرة والأذى، بل يندر أن تجد مودة صادقة خالصة لوجه الله فيها!
فغدت حياتنا كلها تشبه الحياة، ولكنها ليست حياة حقيقة!
نحن نأكل ونشرب ونتزاوج ونظن أننا نحب وننجب وننام ونشاهد ثم نشاهد ثم نشاهد، ثم نكرر ما فعله آباؤنا وأجدادنا على عواهنه، ثم نموت!
نموت دون أن نعرف لماذا كنّا، وماذا فعلنا حقيقة بكل تلك الهبات العظيمة التي منحنا الله إياها:
الحياة، هل حييتَ حقاً؟
هل عشت يومك حقاً، واستيقظت في الفجر لتعرف معنى القرب من الله في ساعات السحر وتشهد على معجزة الولادة والتغيير كل يوم؟
هل عشت في عالمك حقاً وارتشفت منه كؤوس الجمال المترعة في مخلوقات الله البديعة حولك من نبات وحيوان وإنسان؟
هل احترمت وقدرت الإنسان فيك وفي كل من حولك ورعيت كرامته وحفظت حياته وجسده وحقوقه من الامتهان والظلم والتفاهة والسطحية والضياع؟
هل بدأت رحلة تعلمك ونضجك الذاتي مستعيناً بـ"اقرأ والقلم"، مستعيناً بالهدى والنور الذي أنزله الله لنا هادياً ومنيراً، فحملته في قلبك لترقى وعملت به لتصلح نفسك وتصلح العالم؟
الكثير من الأسئلة تحتاج أن تطرحها، الكثير من الشر والظلم تحتاج أن تسعى لتغييره، الكثير من الوعي والقراءة والتدبر والتعمق تحتاجها لممارسته، والكثير من المتع النبيلة تحتاج أن تعيشها بعمق ووأولها متعة وضرورة إطلاق العقل والقلب والروح من عقال عبودية المادة والشهوات وأسر العادات والملهيات والمشتتات والعودة الحقيقة للذات!
الذات التي علمها الله الأسماء كلها بعدما خلق أبانا آدم، وهي مجبولة بفطرتها على معرفة الخير، وتمتلك فيها صوتاً ربانياً يقود إليه!
فهلا أخفضت صوت اللعب واللهو في حياتك، وسمعته!
هذا ما نرجوه!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.