من المفهوم أن يكون هناك تفاوت في مستوى المعيشة لأفراد المجتمع الواحد بحكم الوضع المادي والاجتماعي وغير ذلك، لكن الوضع في مصرنا صار مأساوياً بشكل لا يطاق، خاصة بعدما اختفت الطبقة المتوسطة بشكل شبه تام لصالح طبقة البسطاء الكادحين، فتعيش الطبقة الأرستقراطية في حياة كاملة المتعة والرفاهية، أما الكادحون فيبحثون عن الحياة فقط ولا يجدونها في الغالب إلا بالمهانة، وقد لخص صلاح جاهين واقعنا فقال: "يا شعب نايم على الرصيف وبالمقشة بتتكنس.. فيه ناس بتشقى على الرغيف وناس بتتعب من التنس".
الطبقة الأرستقراطية التي تستحوذ على مقدرات الوطن بالرغم من كونها لا تتعدى نسبتهم 3% من المصريين، وتجمع بين صفوفها أصحاب النفوذ في شتى المجالات، وعلى رأسهم الجنرالات ورجال المال السياسي، وبتعبير أدق هم أصحاب البلد، مع ذلك يشعرون بالقلق على متعتهم، فيأخذون كل التدابير حتى لا يُفسد أحد عليهم رفاهيتهم الكاملة، فيتجهون للعيش معاً في تجمعات سكنية ونوادٍ بمواصفات خاصة، وحولها سور عالٍ يمنع وصول نظرات الكادحين إليهم، وتوفير كل سبل المتعة مثل ملاعب الجولف التي تحتاج مساحات خضراء شاسعة تقدر بـ100 فدان، بتكلفة 15 مليوناً للملعب الواحد، كما تستهلك ملاعب أصحاب البلد قرابة الـ800 مليون لتر من المياه أسبوعياً، ولذلك تصنف كأحد أهم أسباب أزمة المياه في مصر، في حين يبلغ عدد ممارسي اللعبة في البلاد نحو 2500 لاعب فقط.
كل شيء حولك يبين لك حجم الفجوة بين سور أصحاب البلد وساقية الكادحين، إعلانات الوحدات السكنية التي تصل لملايين الجنيهات تبين لك هذا، القرى السياحية بالساحل الشمالي التي تغلق طوال العام من أجل عدة أيام في الصيف تبين لك هذا، صديقي الذي يعمل 18 ساعة يومياً من أجل توفير تكاليف زفافه يبين لك هذا، أطفال الشوارع الذين لا يجدون لهم ملجأ يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء يبين لك هذا، أجور الفنانين ولاعبي الكرة مقابل أجور عمال البناء تبين لك هذا، طلبة الجامعة الذين يعملون أثناء دراستهم من أجل مساعدة أسرهم في الحياة تبين لك هذا.
ولم يكتفِ أصحاب البلد بهذا فقط، بل جعلوا أبناء الطبقة المطحونة يبحثون عن الحياة بشتى المحاولات، فأصبح المواطن الكادح وكأنه مربوط في ساقية، إن جاز التعبير، فيظل طوال حياته يواجه المتاعب والمآسي في رحلته؛ للبحث عن حياة كريمة له ولذويه ودائماً ما يفشل.
البسطاء وأنا معهم وأنت أيضاً يا صديقي في صراع مع الوقت كل يوم وطوال الوقت، يسبحون حول الساقية بانتظام وبخطة وضعها لهم مسبقاً أصحاب البلد.
تبدأ قصة الساقية معنا جميعاً منذ مأساة الثانوية العامة، ذلك الكابوس الذي أتعب المصريين، فتصبح الأسرة البسيطة في معاناة؛ الأب يعمل ليل نهار حتي يوفر لابنه كل ما يحتاجه حتى يجتاز تلك الفترة العصيبة، والأم تعمل على راحته وتلبية طلباته وتخصص له ورداً من صلاتها للدعاء له، أما فارسنا المغوار الذي يخوض المعركة يواصل الليل بالنهار مجتهداً لتحقيق حلمه وغايته واقتناص مقعد بإحدى كليات القمة، تنتهي تلك الفترة ويحصل هذا الطالب المجتهد على مجموع يؤهله للالتحاق بإحدى كليات القمة بمحافظات الدلتا حتى لا ينازع أبناء أصحاب البلد في قلب القاهرة، تستمر معاناة الأسرة البسيطة على مدار سنوات حتى يحصل فارسهم على شهادته الجامعية، هنا يواجه الواقع المؤلم فيبحث عن عمل يليق بكل المجهود الذي بذله فلا يجد، فيضطر للعمل في أي شيء لكي يستطيع توفير شقة وتكاليف زفافه المعطل التي لا يعلم كيف سيوفرها بعد، يحصل من عمله على بعض مئات الجنيهات نهاية كل شهر، كثيراً ما أمسك ورقة وقلماً وكتب ما يوفره من مرتبه الشهري، وما يجب أن يكون بحوزته في خلال عام أو عامين فلا يجد حلاً، فيمزق الورقة بقسوة وينتظر المعجزة.
بالفعل تتحقق المعجزة، وفي حفل عائلي بهيج يتزوج صاحب قصتنا ويبدأ المعاناة من وضع مختلف بعدما يصبح مسؤولاً عن أسرته الجديدة، يفعل المستحيل لتوفير كل مستلزماتهم حتى لا يشعروا بأنهم أقل من غيرهم، تمضي السنوات ويصبح ابنه الأكبر في عمر الزواج، فيعيش معه نفس المعاناة التي عاشها منذ قرابة عقدين من الزمن، وتستمر الحكاية، ونستمر جميعا في الدوران حولها وكأنها قِبلتنا.
في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني عام 2011 ثار المصريون البسطاء رافعين شعار "عيش – حرية -عدالة اجتماعية" من أجل تعديل هذا الوضع البائس لهم وإنهاء سيطرة الطبقة الأرستقراطية على البلاد، ونجحوا في ذلك وقاموا بانتخاب أحدهم في انتخابات نزيهة، لكن هذا لم يرضِ طبقة أصحاب البلد الذين ظلوا يحاربونه منذ البداية ثم انقلبوا عليه في الثالث من يوليو/تموز عام 2016 بمساعدة جنرالات العسكر.
اعلم صديقي القارئ، ذات يوم سيصبح البسطاء هم الحكام، وسيهدمون أسوار الأرستقراطيين حتى يروا خيرات بلدهم المنهوبة، وسيضعون مجسماً للساقية في متحف يزورونه كل حين، وهم يقولون: بتلك الساقية كان يتحكم بنا أصحاب البلد لكي يشغلونا عن هموم وطننا الحبيب حتى نسينا أننا أصحاب البلد وليس هم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.