"أجمل ما في الحب البدايات"
البدايات دائماً هي الأجمل، مشوقة وممتعة ومثيرة، كما أنها تظل راسخة في ذاكرتنا ما حيينا بتفاصيلها الدقيقة، مثل قصص الحب الجميلة وبدايتها المحفورة في قلوبنا، وتلك الابتسامة التي تحتل شفاهنا ونحن نسترجع لحظات الحب الأولى بحلاوتها ونغماتها، بداية شروق الشمس حين ترسل أشعتها تغازل هذا الكون فتبعث فينا حب الحياة، الحياة التي تدب في رحم الأم فتشعر بهذا النهر العذب يتدفق داخلها.. إنها البهجة الخالصة.
بدأت يومي بالصلاة وإعداد فطور بسيط لي ولزميلات السكن، تناولنا ساندويتشات الجبن الرومي التي من الضروري أن تجدها في كل بيت مصري، أتذكر عندما كنت أضعها في رغيف عيش بلدي وأتركها تسيح على نار هادئة وأتلذذ بتناولها مع كوب الشاي الأحمر، عشق المصريين؛ لذلك قررت أن نبدأ يومنا بنكهة من الوطن.
كان بانتظارنا الباص الخاص بالشركة الذي مر على عدة مبانٍ يقطن بها مضيفات جدد مثلنا، انضم لنا ثلاث فتيات سوريات جميلات (صبا ولينا وبشرى)، كانت بداية تعارفنا وكنت أعتقد أن المصريين فقط يتمتعون بخفة الدم كما نردد نحن المصريين، ولكن اكتشفت أنها أكذوبة مثل كثير من الأكاذيب التي يروجها إعلامنا ويصدقها الكثير، تحدثنا عن مصر وسوريا، حينها ساقنا الحنين للوطن، وبدأنا بغناء "حلوة يا بلدي" لطالما عشقت تلك الأغنية.
دلفنا إلى برج كبير حيث أرشدتنا ماريا التي كانت بانتظارنا، ووجهتنا لإحدى الغرف وطلبت منا الانتظار فيها، بالداخل كانت هناك ثماني فتيات من الهند يرتدين الساري الجميل، بادرت بالسلام عليهن، ولكني تذكرت أنهن لا يتحدثن العربية، كانت بداية ممارستي للغة الإنجليزية على مدار اليوم.
قد يبدو صعباً أن نتحدث لغة أجنبية طيلة الوقت، وفعلاً كنت أجد نفسي أركز بشدة لاختيار الكلمات المناسبة للتحدث معهن، ولكن مع مرور الوقت أصبحت عفوية، تماماً مثل علاقتنا بأي شيء جديد، في البداية نهتم به كثيراً، وبعد التعود عليه نجد أنفسنا قد فقدنا ذلك الشغف والاهتمام به، إنها النفس البشرية التي تعشق كل جديد.
بعد أن دلفنا إلى الغرفة بلحظات دخل شاب وسيم يشبه نجوم الأفلام الهندية، طلب منا أن نجلس على شكل دائرة لنتعارف، وبدأ بنفسه: أنا ساليا من سيريلانكا وسأكون مدربكم لمدة شهر، سيكون هناك اختبارات عدة، ومن لم يقُم باجتياز هذه الاختبارات سيعود لبلدته.
أوليس اختبار الغربة والوحدة بكافٍ؟!.. يا لها من بداية مشجعة!!
بعد التعارف وأثناء الاستراحة اعترفت للفتيات الهنديات بإعجابي بالأفلام الهندية التي شاهدتها مؤخراً، حتى الفتيات السوريات أبدين إعجابهن بتلك الأفلام وبدأنا جميعاً بدندنة إحدى الأغنيات الهندية المعروفة التي تقول "أوه ميري محبوبة، محبوبة محبوبة"، والابتسامة مرسومة على وجوهنا جميعاً وكانت هذه هي الطريقة المثلى لكسر الحواجز وإذابة الجليد وبداية صداقة من نوع فريد.
قام ساليا بتوزيع جدول التدريب علينا وتقسيمنا لمجموعتين؛ مجموعة تبدأ بالتدريب على الأمن والسلامة وخدمة متميزة للعملاء (الركاب) بالتبادل، حمدت الله أنه تم وضعي أنا ولينا في نفس المجموعة، لا أعلم لماذا، ولكن إنه شعور الارتياح غير المبرر لأشخاص بعينهم.
بعض العلماء برر ذلك بتوافق الأرواح، كما يوجد حديث لا أعلم مدى صحته يقول: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف).
بعد انتهاء التدريب أصرت لينا على أن تعد لنا طبقاً من المطبخ السوري، صراحة كنت في شوق لتجربة شيء جديد، ولتقوية صداقتي بها، بالفعل توجهنا جميعاً لسكن الفتيات السوريات، بادرت بشرى بإعداد التبولة، وقامت لينا بإعداد "كفتة حلبي"، كنت شغوفة بتعلم كيفية صنع الكفتة والتبولة؛ حيث إنني وقتها كانت أقصى إنجازاتي هي ساندويتشات برجر بالجبنة.
بعد أن انتهينا من الغذاء الذي استمتعت به، شممت رائحة حريق، بدأت في السعال، بادرتني بشرى بمنديل معطر قائله: من هلا وبتكحي، طيب كيف راح تأرجلي؟
كانت بدايتي مع الشيشة، لم أكن من هواة التدخين، ولكن الفضول دفعني لتجربة الأرجيلة، ما أطيب رائحتها ولكني ما إن سحبت ذلك النفس حتى شعرت أنني في النزع الأخير، حيث لم أستطِع البقاء جالسة، سقطت على الأرض من كثرة السعال والضحك في نفس الوقت، لم أستطِع أن أواجه والدتي بفعلتي تلك، ولكني أتخيل ردة فعلها الآن وهي تقرأ هذة المقال: نعم.. لقد أرجلت يا أمي.
انتهى اليوم بإحساس جميل يداعب قلوبنا المتلهفة على بناء صداقات تقيها من مر الوحدة، يوم واحد كسر الرهبة في قلبي بوجود هؤلاء الفتيات المحبات للحياة، كانت بداية مبهجة ومشوقة.. هناك من يقول إن البدايات هي عبارة عن نهايات مستمرة، وآخرون قالوا إن البدايات لا تظهر الحقائق إنها فقط القشور.
ليت حياتنا كلها بدايات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.