منحتني جائزة شخصية العام الإعلامية التي قدّمها منتدى الإعلام العربي في دبي قبل أيام للأستاذ عبدالرحمن الراشد فرصة أنتظرها منذ مغادرته لإدارة قناة "العربية" في نهايات عام 2014 لأقول كلمتين في الرجل الذي تعرفت عليه عبر مقالاته أولاً في جريدة "الشرق الأوسط"، ثم عن قرب بعدما عملت تحت إدارته في قناة "العربية" لمدة تقترب من عشر سنوات.
وعلى عكس ما يقال عادة في مثل هذه المناسبات، بأنه لا غايات شخصية لي من وراء الكتابة عن عبدالرحمن الراشد باعتباره غداً خارج أي موقع مسؤولية، فأنا صاحب مصلحة شخصية جداً في الحفاظ على صداقة رجل مثله، قد أختلف معه في أشياء كثيرة ككاتب وكصاحب رأي سياسي وكمدير، ولكنه كان دائماً وخلال عقد من معرفتي به بارعاً وفي أشد لحظات الخلاف والاحتكاك الحاد معه على إثارة إعجابي بديمقراطيته ورحابة صدره وكبر عقله، سواء كشخص وكصحفي، أو كمدير استطاع الارتقاء بمنصب المدير إلى مرتبة الزميل.
لا أزال أتذكر مفاجأتي بعد سماعي أول جملة من عبدالرحمن الراشد في أول اتصال تليفوني به في أغسطس/آب 2006 بعد أن أخبره الصحفي اللبناني الصديق عبدالستار اللاز برغبتي بلقائه بحثاً عن عمل، إثر مغادرتي دمشق بعد تهديد مدير المخابرات العامة اللواء علي مملوك باعتقالي، حين قال لي: تعالَ الآن، وكنت أتوقع وقتها على عادة المديرين اعتذارات أو تسويفات أو أقلها تحديد مواعيد بعيدة، وكان المثير للضحك وقتها أنني أنا الذي اعتذرت بسبب وجودي في مدينة أخرى خارج دبي، وفي ثاني اتصال لي به كرر كلمته، وحين هممت بالاعتذار لنفس السبب السابق، قال لي إن لقائي به سيتأخر؛ لأنه سيسافر خارج دبي أسبوعاً، وإنه سينتظرني حتى المساء في مكتبه.
وعلى عكس توقعاتي التي تنطلق من عنصرية تربى عليها السوريون في نظرتهم للآخر، وخاصة الخليجي، وجدت نفسي في ذلك اليوم أمام رجل عصري محترم ناقشني في كل القضايا حول سوريا، ولم يحاول في لحظة أن يوحي لي بأنني في مقابلة عمل أو فحص تحليل دم فكري أو سياسي، إلى الدرجة التي دفعت بالصديق عبدالستار اللاز الذي كان حاضراً على التدخل وتذكيرنا بأننا يجب أن نتحدث في موضوع العمل الذي طلبت أنا اللقاء من أجله، وعندها سألني الراشد في أي قسم أحب أن أعمل، وطلب أن أمهله أسبوعاً لترتيب ذلك بعد عودته من سفره، وهكذا حصل..
الانطباع الأول الذي تركه الراشد (كما يسميه كل الذين عملوا معه بدون تكلّف) لديَّ، لم يتبدّل طوال عشر سنوات من علاقتي به، وكان قادراً على حل أعقد القضايا خلال خمس دقائق، وسماع أشد الآراء معارضة له دون أن يعاقب صاحبها، وكان قادراً على استيعاب وجود طيف متنوع ومتناقض من البشر يختلفون معه في الرأي والهدف، شرط أن لا يفرضوا آراءهم على الشاشة التي يديرها، وحتى إن غافلوه وفعلوا أحياناً فأقصى ما كان يفعله هو الحرص على ألاّ يتكرر ذلك، وأي انطباع خلفه لدى أحد عن ديكتاتوريته أو تسلطه فهي من نتاج خيال الشخص الذي تصوّره ديكتاتوراً أو متسلطاً، وتعامل معه على هذا الأساس.
ساعدني عبدالرحمن الراشد مرتين بشكل رئيسي لأحافظ على استقلاليتي؛ الأولى حين أتاح لي منفى في "العربية" خارج سلطة بشار الأسد في عام 2006، وثانية عندما منحني نفس المكان بعيداً عن تسلط وعَتَه أشباه بشار الأسد في عام 2011، ورفض استقالتي عدة مرات بسبب خلاف على تفصيل في العمل أو وشاية زميل أو خطأ اقترفته، ودعم عملي في كل ما احتجته منه حتى خارج "العربية"، حين وضع كل إمكانياته القناة التي يديرها في تصرف تظاهرة "وطن يتفتح في الحرية" التي أشرفت عليها في الدوحة عام 2012، وتدين له الثورة السورية بدعم إعلامي قدّمه بلا حدود لها حماساً لحرية السوريين، قبل أن يكون تنفيذاً لسياسات.
شهادتي مجروحة في عبدالرحمن الراشد، فمهما حاولت أن أبدو موضوعياً في الحديث عنه، يفضحني انحيازي له، ولكن من بين كل الذين عملت معهم في حياتي المهنية الراشد هو أحد اثنين (الآخر هو الأستاذ فؤاد بلاط مدير هيئة الإذاعة والتليفزيون السورية)، لم يعتبرا أن بناء المؤسسة الإعلامية يجب أن يتم على شكل بناء الحزب السياسي وبطريقة النظام المنضم، وأن الرأي المخالف والمختلف هو غنى وليس جاسوسية أو عمالة، وأن التنوع هو سمة من سمات النجاح.
مشكلة الآخرين مع عبدالرحمن الراشد أنهم يريدونه على رأيهم وحسب تصوراتهم ومنفذاً لأفكارهم، على عكسه هو الذي يقبل اختلافهم معه، من دون أن يعني كلامي هذا تنزيهه وتخطيئهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.