مذكرات سجين.. لم تمسه الجنّ في العراق

أُطلق سراحي بعد عام ونصف، وتركت خلفي المئات من المعتقلين، فتتبعت أخبار بعضهم؛ ليتضح أن الأمر ما زال على ما هو عليه إن لم يكن أسوأ، بعضهم حكم عليه بالإعدام، وبعضهم بالحبس المؤبد، فما ينتظر آخرون دورهم للوقوف بين يدي القضاء الذي يحكم وفق ما يراه أمامه من اعترافات انتُزعت بالإكراه كما هو موثَّق لدى منظمة العفو الدولية.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/15 الساعة 04:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/15 الساعة 04:52 بتوقيت غرينتش

لم يخطر ببالي يوماً قبل عام 2011 رغم كل الفوضى التي كانت تعصف بالبلاد بأني سأكون خلف القضبان لأعيش تجربة كنت قبل ذلك أكتب عنها في مقالات تحقيقية حول ما يتعرض له المعتقلون من انتهاكات لإنسانيتهم في سجون الحكومة العراقية.

عام ونصف قضيتها متنقلاً بين مراكز التحقيق لتنتهي بي الإقامة داخل قسم في جناح الأحكام الثقيلة بسجن أبوغريب السيئ الصيت؛ حيث أودعت أولاً بعد إلقاء القبض عليَّ مع عددٍ من زملائي لمدة 45 يوماً في مركز للتحقيقات داخل مطار المثنى وسط العاصمة بغداد، مرتبط بمجلس الوزراء بشكل مباشر إبان فترة ترؤس نوري المالكي للحكومة آنذاك، فترة عدت بالنسبة لي الأكثر قسوة وألماً لما رافقها من جلسات تعذيب لانتزاع اعترافات تتناسق من حيث قوة اللكمات وفترة الصعق الكهربائي مع عدم قناعة الضابط المسؤول عن التحقيق وما يتلقاه من إفادات يراها غير متوافقة مع ما هو مثبت عنده في تقرير المخبر السري.

وبالرغم من نفي كل التهم التي وُجهت لي، فقد تفاجأت حين شاهدت كتاباً بعد إطلاق سراحي يفيد بأني قد بصمت بالإيجاب معترفاً بارتكاب ما تُلي عليَّ من تهم! والسبب أن الضابط مسك بيدي وأمرني بالتوقيع بينما كانت عيناي قد عصبتا بخرقة قماش.

ما شاهدته وعشته خلال تلك التجربة جعلني أسخر مما كنت أظنه إنجازاً عظيماً يتيح لي أن أتبجح أمام زملائي قبل اعتقالي بأني نصيرٌ لقضية عبر سرد سطور أكتبها عن معاناة السجناء، وأنا متكئ أمام حاسبتي وبجانبي فنجان القهوة.

ولربما كنت أتململ في كثير من الأحيان إن لم يلبّ جهاز التكييف رغباتي بطقس يلاطف وجناتي، فكم كنت مغفلاً بعد أن رأيت المعتقلين وهم يقفون بالطابور أمام الحمام لمدة ساعتين ليصلهم الدور، فيما تسيل الدماء من آخرين تقرحت جروحهم بسبب مرض الجرب، أما منظر الرجال وهم يعودون لقاعة السجن بعد ساعات من جلسات استجواب وهم فاقدو الوعي وقد خلعت أكتافهم، فهو أكثر المشاهد رعباً؛ لأن المشاعر ستختلط عندك، لا تعرف إن كنت تشفق عليه أم تشفق على نفسك وأنت تنتظر لينادى باسمك للخروج للتحقيق، وهو موقف عشت بعضاً من هوله في أحد الأيام؛ حيث قام منتسب داخل سجن مطار المثنى بضربي عدة لكمات على وجهي، وهو يصرخ ويقول: "آه لو كنت بين يدي عام 2006″، ويقصد بقوله أنه كان يتمنى لو أتيحت له الفرصة لتصفيتي وإطلاق النار على رأسي ورمي جثتي عند أقرب مكب للنفايات، كما كان يجري آنذاك مع العديد من المعتقلين، وهو ما اعترفت به منظمة العفو الدولية، فضلاً عما كشفته الـBBC والغارديان عن مهام الكولونيل "جيمس ستيل"، مستشار مراكز الاعتقال في زمن وزير الداخلية "باقر جبر صولاغ"، وكيف أن هذا الشخص أشرف وتغاضى عن عمليات تصفية المعتقلين العراقيين.

وللحديث صلة، فقد التقيت داخل سجن أبوغريب نهاية عام 2011 بشاب يدعى (ع.م) وهو من أهالي منطقة الدورة في بغداد، قال لي إنه نجا من الموت بأعجوبة، حيث عذب هو واثنان معه يحملون نفس اسمه من قبل قوة حكومية تابعة للواء (54)، وقص ما تعرض له ومن معه من تنكيل واعتداء جنسي عبر إدخال عصي خشبية في مكان حساس بعد أن تم ربطهم على منضدة داخل غرفة الاحتجاز، قال: "لقد صرخنا بأعلا صوتنا من شدة الأم وشعرنا بأننا بتنا ننزف بشدة، وسرعان ما فقدنا الوعي"، ثم قال بأنه فتح عينيه على صوت شخص يصرخ باسمه ويبكي ليتبين بأنه صديق قديم له منذ أيام الدراسة، ولكنه تطوع ضمن صفوف الشرطة؛ حيث عثر عليه مرمياً في ساحة ترابية تدعى سدة القناة قرب مدينة الصدر شرق العاصمة، وبالرغم من نجاته وعودته لأهله، فإن الأجهزة الأمنية عادت وقبضت عليه مرة أخرى؛ لينتهي به المطاف في سجن أبوغريب.

من حسن حظي أني لم أنَل قدراً كبيراً من التعذيب بسبب مهنتي ونوع التهمة التي اعتقلت على أثرها وحوكمت بموجبها وفق المادة 220 من قانون جرائم النشر استنادا لبلاغ قدمه جهاز المخابرات، وهي التحريض ضد الحكومة، فيما استبدل البلاغ بعد حين بتهمة التحريض على الطائفية منعاً للحرج على الأجهزة الأمنية بعد تصريح لرئيس الوزراء نوري المالكي بتاريخ 28 من يونيو/حزيران عام 2012 بمناسبة الذكرى 143 لصدور أول صحيفة عراقية؛ حيث قال إن السجون العراقية خالية تماماً من الصحفيين وأصحاب الرأي الآخر.

جزء كبير من الحرج لاحقنا نحن الصحفيون أيضاً فلم نتمكن بتاتاً من استغلال هذا التصريح لصالحنا، حتى إننا رفضنا عرضاً لإحدى الفضائيات حول تبني حملة تليفزيونية للضغط على الحكومة ودفعها لإطلاق سراحنا، فقد خشينا أن تنقلب الأمور رأساً على عقب وتتم فبركة تهم بديلة لنا تندرج ضمن بند مادة الـ(4 إرهاب) التي عادة ما تكون أحكامها تتراوح بين السجن 15 عاماً والأعدام شنقاً.

التقيت بمئات المساجين وتواصلت مع العشرات منهم، واستمعت لقصصهم التي لو سرد أحدهم أحداثها على مواطنٍ أوروبي دون الإفصاح عن واقعيتها لقال إنها حكايات مقتبسة من قصص "ألف ليلة وليلة".

طلبة جامعات وأساتذة، وكتبة وعمال أجور يومية ومقعدون ومتقاعدون، ولم يسلم حتى الأطفال ليكونوا ضمن الضيافة الحكومية داخل الجدران الكونكريتية، فقد شاهدت نحو تسعة أطفال تتراوح أعمارهم بين 16 و17 عاماً تم اعتقالهم من منطقة أبوغريب غربي بغداد، حين كانوا ضمن طاقم عمال بناء في منزل، تبين أن صاحبة مطلوب للتحقيق، فاعتقلت القوة الحكومية كل مَن وجدتهم ضمن المكان!.

السجن لمن يرفض العمل جاسوساً لدولة إقليمية!

شاءت الأقدار أن يكون أحد رفاقي في سجن التحقيق الأول مواطناً رائعاً في أخلاقه يدعى (م.ر) وهو من أهالي البصرة، والذي كان قد سبقني في أن يكون بضيافة السجن بحوالي عام ونصف، وما هي أيام حتى بتنا صديقين، ما جعلني أتجرأ على سؤاله عن سبب دخوله المعتقل، فضحك قائلاً: "لولا علمي بأنك صحفي لما أخبرتك"، وقال: "كل من قصصت عليهم حكايتي ضحك وسخر مني".

فقلت له: لا عليك وأخبرني بما جرى، فقال: "بعد عام 2003، أحببت أن أحسن من مستواي المعيشي، فقمت بالسفر تباعاً لإيران لقربها من البصرة، حيث كنت أشتري من هناك الخضار بأسعار زهيدة وأنقلها لسوق البصرة، وما هي إلا أشهر، حتى طلب مني شخصان إيرانيان هناك أن أرافقهما لمقهى قريب، ثم قالا لي: "لقد كنا نراقبك منذ فترة ونحن ضابطا أمن إيرانيان، وجمعنا عنك بعض المعلومات، ووجدنا أنك مهيأ للعمل معنا عبر تزودينا بمعلومات نطلبها منك تباعاً، مقابل أجر ثابت".

ويضيف (م.ر): "من هول الموقف ومن خلال ما كنت أشاهده في المسلسلات، حاولت أن أظهر لهما أني متماسك وغير خائف أو متردد كي لا يغدرا بي"، ثم يكمل بسرد حكايته ويقول:

"عدت للبصرة وذهبت في صباح اليوم التالي لدائرة الأمن الوطني في المحافظة، وقصصت عليهم ما جرى معي، فشكرني الضابط وأخذ مني عنوان منزلي ورقم هاتفي، فعدت لمنزلي فرحاً وكأني أعيش دور رأفت الهجان، ولكن سرعان ما انقضى الحلم، ليحل كابوس مرعب بعد يوم واحد وأنا أشاهد قوة من المغاوير وهي تطوق منزلي لتقتحمة وتعتقلني بتهمة تهريب الآثار"، يقول: "ضحكت، فلم أكن أعلم أساساً أن تجارة تهريب الآثار رائجة في البصرة".

يكمل الحكاية بابتسامة يغشاها الأسف والحسرة، ويقول: "تم عرضي على ضابط التحقيق في اليوم التالي، وقد أوثقوا يديَّ وعصبوا عينيَّ، فانهالوا عليه بالضرب والصعق بالكهرباء وأنا أصرخ وأناشدهم لِمَ وما السبب؟ فيقول لي الضابط بالحرف الواحد: "لك صاير وطني براسنه"، فقال: "عندها أدركت حجم حماقتي وسذاجتي، فرددت على الضابط وقلت له: لا سيدي إني مو وطني، إني مولده، بس هدني"، يقول: "ظننت بردي هذا أنهم سيعتقدون بأني معتوه وسيطلقون سراحي وسيكتفون بما كسروه من أضلاعي، ولكن تبين العكس، فازدادت وتيرة التعذيب لينتهي بتوقيعي على ورقة لا أعلم ما محتواها، ومنذ ذاك اليوم وأنا في السجن أجهل حتى نوع تهمتي".

سكت أنا عندها، وتيقنت أن البلاد قد ضاعت.

الجِن رفقاء لنزلاء المحاجر!

مئات القصص رسخت في ذهني وأنا أستمع لها من على ألسنة نزلاء تعدهم الحكومة بأنهم مجرمون خطرون، ولكن لو نظرت لهم وهم يصطفون جلوساً وبكل شغف ولهفة أمام شاشة التلفاز لمشاهدة أفلام الكارتون، ستعلم أي ظلم ارتكبته الأجهزة القضائية في العراق بحق آلاف الأبرياء.

أختتم هذه النبذة البسيطة من مذكراتي بقصة لربما يظن البعض أنها محاكاة لأفلام الرعب التي يشاهدونها وهم يتناولون المكسرات، ولكنه الواقع بكل بساطة، فقد لفت انتباهي رجل وقور كبير بالسن يدعى أبويوسف وهو من أهالي اللطيفية، كان يجلس على سريره وهو ينظر ويتفحص الوجوه داخل قاعة السجن، بينما يقوم أحد الأشخاص برفع الأذان، وبعد الانتهاء من الصلاة فإذا به يسير بخطى هادئة صوب شخص، وكأنما قد وقع عليه الاختيار دون أن أعلم ما السر وراء ذلك، وبعد حوار قصير، يقبل هذا الرجل الكبير وبصحبته الشخص الآخر ليستلقي على الأرض واضعاً كفيه على صدره ورأسه عند قدمي أبويوسف الذي تربع وبدأ بتلاوة آيات من القرآن الكريم يستهلها بسورة الصافات، وفي أقل من عشر دقائق يبدأ جسد الشاب المستلقي وكأنما يريد أن ينشق عن أمر عظيم، فيما تتغير ملامح وجهه، تجحظ عيناه لينهال بعدها بإطلاق سيل من السباب والشتائم التي ما سمعتها طوال فترة سجني من أحد هناك قط، عندها يبدأ أبويوسف بالصراخ في أذن الشاب قائلاً: "اخرج من هذا الجسد ولا تكن عاصياً لأمر الله"، فأدركت أن الأمر يخص مس الجن أو التلبس.

فيما تكرر الأمر لعدة مرات مع عدة أشخاص، أحببت أن أعرف كيف يقع الاختيار على من يظن آن الجن قد تلبسهم، فقال لي أبويوسف إنه ينظر في وجوه النزلاء عند رفع الأذان والتكبير ومن تبدو عليه آثار الانزعاج فهو ممسوس، ثم كشف لي بأن معظم من عالجهم كانوا قدر تعرضوا للحجز داخل المحاجر، وهي غرف صغيرة بالكاد تكفي للجلوس، والقدمان مثنيتان، فضلاً عن عدم وجود نوافذ بها.

أُطلق سراحي بعد عام ونصف، وتركت خلفي المئات من المعتقلين، فتتبعت أخبار بعضهم؛ ليتضح أن الأمر ما زال على ما هو عليه إن لم يكن أسوأ، بعضهم حكم عليه بالإعدام، وبعضهم بالحبس المؤبد، فما ينتظر آخرون دورهم للوقوف بين يدي القضاء الذي يحكم وفق ما يراه أمامه من اعترافات انتُزعت بالإكراه كما هو موثَّق لدى منظمة العفو الدولية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد