في أول أيامي بالولايات المتحدة، أتيحت لي الفرصة أن أشارك في مؤتمر عالمي للطلاب المنادين بالتحررية (International Students for Liberty)، وكنت أظن أن المؤتمر سيناقش قضايا الحرية في العالم، وربما تطرق لبعض الدول التي تكبت فيها الحريات، لكن الغريب أني فوجئت بالمؤتمر مناقشاً لأفكار لم أسمع بها من قبل، بل إن أغلب المتحدثين كانوا يصبون جام غضبهم على حكومة الولايات المتحدة نفسها، تبين من بعد أن المؤتمر يشكل اجتماعاً لطلاب تيار سياسي/فكري هو ما يسمى الحزب التحرري أو (Libertarian Party) وإذ به تيار ينشط في أميركا مشجعاً على أفكار تحررية كالسوق الحرة والحرية الشخصية واحترام الدستور وعدم تدخل الحكومات في حياة الناس، أي أن تلعب الحكومة دوراً صغيراً جداً في توفير الأمن فقط. كانت تلك أول تجربة مع تيار جديد في الولايات المتحدة غير التيارات المعروفة، لكني كنت أبحث عن تيار آخر جئت محملاً بأفكاره من بلاد المشرق، وهو ذلك التيار المنتقد للنظام الأميركي الرأسمالي وإمبرياليته متمثلاً في فيلسوف اللغويات المعروف نعوم تشومسكي.
بدأت القراءة لنعوم تشومسكي منذ أيام الجامعة في الخرطوم، وقد أدهشني كتابه عن كيفية عمل العالم الذي انتقد فيه الولايات المتحدة الذي يرى أنها سبب رئيسي في تقويض ديمقراطيته وأمنه، هذا بالإضافة إلى عدد ضخم من محاضراته حول القضية الفلسطينية، وكيف يقف وحيداً في مواجهة النفوذ اليهودي في أميركا. تولد لديَّ تقدير كبير للرجل، فبالإضافة الى آرائه السياسية يمتاز تشومسكي بعمق فلسفي آسر رأيته في مناظراته مع سام هاريس حول الدين واللغة والأخلاق.
مع بداية الدراسات العليا في واشنطن، كان من الظاهر توافر العديد من الشخصيات المؤثرة؛ حيث من الممكن أن أجري معهم مقابلات خاصة، ولعل من عادتي منذ أيام النشاط الجامعي أن أسعى للقاء الشخصيات المؤثرة وتكوين علاقات بها؛ حيث يمكن التعلم من التجربة عياناً والتعرف على ما لا نلقاه في الكتب، عقدت العزم على الاستفادة من إقامتي في عاصمة العالم، وملاقاة أكبر قدر من المفكرين والسياسيين وصناع القرار، وقد كنت أظن أن الأمر سيستلزم جهداً أكبر مما كنت أبذله في السودان؛ إذ إن المشغوليات ستكون أكبر، خصوصاً لتلك الشخصيات التي تحمل طابعاً تنفيذياً في الحكومة أو مراكز البحوث، لم يكُن الأمر كما أتخيل؛ إذ يبدو أن في ثقافة الأميركيين أن يوفروا وقتاً لطلاب العلم رغماً عن جدول أعمالهم المزدحم، بالفعل قمت بالاتصال ببعض الشخصيات، وتوفقت بلقاء العديد من الشخصيات المؤثرة في السياسة الدولية في أميركا.
حينها كنت أعمل في الصيف باحثاً لمركز ستيمسون؛ حيث عملت في قسم الشرق الأوسط لبحث قضايا الأزمة السنية – الشيعية والاتفاق الإيراني مع المجتمع الدولي. شهدت تلك الفترة التوقيع على الاتفاق وبدء حكومة أوباما حملة لمحاولة لإقناع الكونغرس والمجتمع الأميركي بجدوى الاتفاق، خصوصاً اليمين المحافظ الذي يمثل أقوى معارضة للاتفاق، وبالطبع كانت مراكز البحث جزءاً من الحوار الدائر، فإما ان يدعم الاتفاق وإما أن ينتقده، وأذكر أنني زاملت باحثة ذات أصل باكستاني قادمة من جامعة تافت (Tufts University)، وكانت تبحث في قضايا الأسلحة النووية، سألتها عن بوسطن والحياة في بوسطن؛ لأن بوسطن تمثل مركزاً للبحوث والأكاديميين مع وجود أفضل جامعات العالم بهارفارد وMIT وجامعة بوسطن، ثم انتبهت إلى أن البروفيسور نعوم تشومسكي يعمل أستاذاً في قسم اللغويات بجامعة (MIT)، سألتها عن تشومسكي فوجدتها تحبه، بل حضرت له أكثر من محاضرة، فاقترحت عليَّ فكرة ملاقاته والذهاب إلى بوسطن، فقلت: لِمَ لا! صادف ذلك الوقت وجود أحد أصدقائي السودانيين باحثاً في MIT فاتصلت به، وسألته مشكوراً إن كان يستطيع أن يذهب لقسم اللغويات ويستفسر عن إمكانية مقابلة تشومسكي. في نفس الوقت قمت بإرسال بريد إلكتروني لعنوان تشومسكي المتوافر على صفحة القسم بالجامعة، عرفت فيه بنفسي وعن البحوث التي أقوم بها، وعن إمكانية مقابلته؛ إذ مثلت حلماً لي منذ سنين، تفاجأت بعدها برد من تشومسكي شخصياً مرحباً بالفكرة، وطالباً تنسيق المواعيد مع مساعدته، لم أصدق ما حدث!
قمت بعدها بالتنسيق على موعد للمقابلة، لكن الموعد الأول تأجل لظروف مشاركة البروفيسور في مؤتمر خارجي، ثم قمنا بتحديد موعد جديد، وأخبرت صديقي محمد عبد الوهاب لمرافقتي؛ إذ لمست عنده تشوقاً للفكرة، وقد آثر أن يأتي من كندا خصيصاً لتلك المقابلة، اخترنا أن نسافر براً فبوسطن تبعد حوالي الثماني ساعات من واشنطن، جاء ذلك اليوم المنتظر وقد ارتديت بدلة خاصة للمقابلة؛ إذ إننا تعلمنا في عاصمة السياسة أن أول ما ينظر إليه الناس في واشنطن هو لباس المرء وهندامه، دخلنا قسم اللغويات والفلسفة وهو يقع في مبنى حديث مصمم بطريقة جميلة أخاذة، كأنه صمم ليعكس حداثة الفكر الذي يمثله تشومسكي وزملاؤه، ثم انتظرنا أنا وصديقي حتى قدوم الزمن المحدد؛ إذ كان هناك وفد مع تشومسكي يبدو أنه من دول شرق آسيا، ولعل من المفارقات أن يعرف الرجل في أصقاع الأرض ولا يعرفه كثير من الأميركيين.
في لحظات الانتظار تأملت في القسم وأساتذة القسم وكيف يمثل هؤلاء الفلاسفة بساطة منقطعة النظير، كنت أبدو غريباً جداً؛ إذ كانوا متواضعين في هندامهم بشكل جعلني أتذكر أئمة الصوفية الزاهدين، وقد شغلهم أمر الروح عن حسن الظاهر، وما هي إلا دقائق حتى دخلنا على حضرة العلامة، دخلنا عليه فلم نرَ غير الكتب في كل مكان وكرسي وحاسوب، ذلك كان محراب تشومسكي.
في المرة القادمة أحدثكم عن رأيه في ترامب وإفريقيا والشرق الأوسط والسترة التي كنت أرتديها!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.