القَلْبُ الصغير.. البراءة.. الرقّة.. الحب.. العطف.. عالم الإنسان الصغير.. صفحة بيضاء وحياة صفاء.. ثغر باسم وقلب نقيّ.. الأمل بالمستقبل وانتظار الثمر، بعد تعب وطول انتظار.. إنها "الطفولة".. باسمها وصفتها ومعناها ومضمونها.
لكن الطفولة في أوطاننا، ليس لها من معنى الاسم والصفة والمحتوى والفحوى أي حصة ونصيب، غير سنوات العمر التي تمر ثقيلة عليهم مثقلة بالمآسي، حيث طغت حياة القهر والحرمان والجوع والتشرد على اللعب والمرح، الذي يفترض أن يتمتع به أي طفل في العالم.
في أوطاننا تدفن الطفولة، على مرأى ومسمع العالم بأسره، لتموت موتاً قسرياً تحت سقف الظلم والاضطهاد، لترقد أرواحهم البريئة تحت التراب الممزوج بالدم والبارود! ومن بقي منهم على قيد الحياة يناشد: اقتلونا بغير ألم".."اقتلونا بغير رعب ووجع"! لقد صَغُرَت أمامهم كل الحياة، وصغر أمامهم الموت، وصغر أمامهم كل الحكام، وكل من لم يسمع النداء والصراخ، كما سمع المعتصم!
لقد ركز علماء النفس والمتخصصون في التربية وعلم نفس الأطفال على "الصدمة" كأكثر الآثار السلبية للحروب انتشاراً بين الأطفال، فغالباً ما يصاحب الصدمة خوف مزمن من الأحداث، والأشخاص، والأشياء التي ترافق وجودها مع الحرب، مثل صفارات الإنذار، وصوت الطائرات، وجحافل الجنود، وأزيز طلقات النار، ودوي المدافع، وهول الانفجارات للعبوات، والسيارات الملغومة، ويقابلها الطفل بالبكاء أو العنف أو الغضب أو الهلع والاكتئاب الشديد.
في العراق وبتصريح سابق لأحد مسؤولي اليونيسيف، أشار إلى أن أكثر من مليون ونصف طفل عراقي سيكونون بحاجة إلى علاج نفسي من الصدمة النفسية التي تعرضوا لها خلال الحروب والأوضاع الأمنية المتردية والتفجيرات والمفخخات هنا وهناك.. فكم أصبح العدد الآن؟!
وإذا كان الكبار يستطيعون تحمل الصدمات مع ألمها ومعاناتها، فإن الأطفال على العكس من ذلك، فإن ما يصاحب الحروب من أهوال ونكبات وصدمات كفيل بزعزعة نفس الطفل وأمنه مدى الحياة.. وقد لا يدرك الأهل والمجتمع هذا الأثر في وقته، لكنه وبمرور الوقت تتفاقم حالة الطفل، ويتحول المشهد المرعب والمفزع الذي رآه قبل سنوات في غمرة الحرب، يتحول إلى آفة نفسية لا يستطيع الشفاء منها إلا بعد علاج قد يطول.
أما في سوريا فقد كشف تقرير لمنظمة "أنقذوا الأطفال" الدولية غير الحكومية، أن ربع مليون طفل على الأقل يعيشون تحت وطأة الحصار بمناطق سورية عدة، إذ يضطر كثيرون منهم إلى أكل علف الحيوانات وأوراق الأشجار للبقاء على قيد الحياة.
أطفال عرفوا الموت دُون سنِّ المعرفة بالموت، أطفالٌ عرفوا الصيام دون سن التكليف بالصيام، لأنهم صاموا سنين بسبب الحصار والفقر والجوع الحاصل بالحروب والأزمات والنكبات.
وما بين من يشاهد الحروب وبين من يعيش الحرب من أطفالنا تضيع طفولتهم وتزداد معاناتهم، فماذا فعلت بهم هذه المشاهد من آثار نفسية؟! وماذا باستطاعتنا أن نقدم لهم لنسيان وعلاج ذلك؟!
وهناك صنف آخر من الأطفال البائسين، أطفال حرموا من حنان الأب، أو الأم، أو كليهما، حملوا مسمى "أيتام"!.. يعيشون في العراق في "دولة الأيتام"! حيث يضم النسبة الأكبر قياساً بعدد نفوسه، إذ تجاوز عددهم الأربعة ملايين ونصف، بحسب إحصاءات لوزارة التخطيط والتعاون الإنمائي العراقية، بينهم آلاف المشردين في الشوارع وفي مخيمات النازحين.. وبلدنا الجريح فيه اليتيم والمنقطع واللطيم!.. فالله الله في أيتامنا فهم منسيون مظلومون ومنكوبون بوطن جريح.. فكلنا أصبحنا وفي غفلة من أمرنا "أيتام وطن"!
وهناك صنف آخر هم "أطفال الشوارع".. الذين يثيرون حزن وقلق المجتمع عليهم ومنهم! وفي العراق لا تخلو مدينة من أطفال في حالة يرثى لها.. تجدهم في مواقف السيارات.. قرب المطاعم.. على الأرصفة.. في الحدائق.. لا ملجأ لهم ولا مسكن، فهم يتخذون بعض الأماكن والحدائق المهجورة مكاناً للمبيت، مفترشين الأرض وملتحفين السماء! ورغم كونها مظهراً سلبياً ينعكس تأثيره على المجتمع، لكن لا أحد يستطيع أن يلومهم لوماً مباشراً، فهم ضحايا قبل أن يكونوا أي شيء آخر، ضحايا الحروب والانهيارات الأمنية وعوامل مجتمعية واقتصادية، عكستها هذه الحروب والظروف، ولم ترحمهم ولم تترك لهم فرصة للخيار، أمام صعوبة تلك الظروف التي يعيشونها.
تتزاحم أمام أعيننا كل يوم الصور المرعبة لأشلاء أطفالنا في سوريا، وسبقها العراق بسنوات، عبر شاشات التلفاز ومواقع الأخبار.. صور قتلى مروعة، ودمار للبنى التحتية، وأشلاء لكبار وصغار.. لكن الدمار الذي لحق بالبنى التحتية لاشيء! أمام الدمار الذي اجتاح هذه الأرواح المسكينة البريئة، فكل شيء يعاد بناؤه، ولكن، من يستطيع إعادة إعمار أرواح باتت مريضة ومصدومة نفسياً وعقلياً لا تقوى على احتواء ألمها تلك الأجساد الصغيرة؟!
وأيُّ قلوب لنا بعد رُؤية أطفال العراق، وسوريا والعالم العربي، تحترق جلودهم الغضة، ووجوههم المشتعلة بنيران الحقد والكره الأعمى لما هو جميل وبريء؟!.. أيُّ قلوب تفرح بعد رُؤية أولئك الأطفال يُزاحِمهم الذباب على طعم ومذاق دمهم الرطب الدافيء الطاهر؟! ومن بقي منهم على قيد الحياة، لا يريد لعبة يتسلى ويلهو بها، ولا دُمى يلاعبونها، هم في هول الصدمة، وحالٍ يشغلهم عن التفكير.. إلا في البَقاء على قيد الحياة!
فأيُّ إيمان في قلوبنا؟! ونحنُ نرى غيرَ المؤمنين بما نؤمن، ومن غير العرب، تأخُذُهم الرأفة بالحيوانات، والشفقة على الأفاعي والحشرات، بينما لا يُحرك قلوبَنا حالُ أطفالنا، ولا يُثِير شُعورنا فقرهم، وعوزهم، وضعفهم وموتهم!
حين يتمّ اغتيالُ الطفولة في بلد ما، فسوف يتمّ اغتيالُ المستقبل، وتدميره وقلعه من جذوره، لأنّ أطفال اليوم هم مستقبلُ الوطن كما تعلمنا في مدارسنا مذ كنا صغاراً، وقتل الطفولة ينعكس قتلاً وتدميراً لمستقبل الوطن.. إن بقي هناك مستقبل لوطن!
إن من اغتالوا الطفولة، سبق وأن اغتالوا وطناً! وهم أنفسهم الذين ضاق مفهوم الطفولة لديهم، وبالتالي ضاع مفهوم الرجولة عندهم، وأصبحوا "أطفالاً كباراً" مشاكسين عابثين.. يعبثون بحياة ومصير الطفولة قتلاً واغتيالاً!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.