يأتي الثالث من مايو/أيار، اليوم العالمي لحرية الصحافة هذا العام في مصر في أجواء أكثر مرارة عن أي عام سبق، اقتحمت سلطات الأمن المصرية، قبل يومين، مقر نقابة الصحفيين المصريين، ذلك المقر التي شهدت سلالمه قطرات المخاض العسير لمصر نحو الحرية، الذي المخاض بدأ في عام 2005 ولا يبدو أنه سينتهى قريبًا.
قامت سلطات الأمن بذلك لإلقاء القبض على صحفيين مصريين، الزميلين عمرو بدر ومحمود السقا، بتهمة كادت أن تتحوَّل إلى "مزحة" بعد ثورة 25 يناير ألا وهي "زعزعة نظام الحكم"!!
لا أستطيع منع نفسي من تذكر مزحة أخرى كنت أرددها أنه عندما يحدث "انقلاب" في نظام الحكم السياسي في بلد ما فإن من يحاول "قلب هذا الانقلاب" هو في الحقيقة يقوم بـ"عدل نظام الحكم"، ومن ثمَّ فإن نياشين الشرق وأكاليل الغار مستحقة له، ولا يكون السجن مصيره بالتأكيد.
اليوم علينا كصحفيين مصريين وعرب، أن نعدد أحزاننا، نذكر المغيبين خلف السجون، والمغيبة أقلامهم قهرًا، ونذكر الباقين على الدرب، يكافحون من خلف شاشاتهم في نشر كلمة الحق، والحفاظ على شرف المهنة.
ونذكر كذلك فئة رابعة، "واجبة الذكر"، وهم المذكور أسماءهم في عنوان هذه التدوينة.
أربع فئات من الصحفيين أود ذكرها اليوم، ولا يعني ذلك أبدًا أنني أقسم جموع الصحفيين لهذه الفئات الأربع، فهناك الكثيرون ليسوا من هؤلاء أو هؤلاء، لكن مناسبة اليوم استدعت أن نذكر هؤلاء تحديدًا لأسباب تذكر في السطور التالية:
المغيبون خلف السجون
"نحن في أسوأ مناخ للصحافة في تاريخ مصر".. العبارة التي تلخص وضع الصحافة والصحفيين في مصر الآن، جاءت على لسان خالد البلشي، رئيس لجنة الحريات بنقابة الصحفيين المصريين.
خلف السجون الآن أكبر عدد من الصحفيين المصريين يتم سجنه في نفس الوقت دون أي سبب عدا ممارسة مهنتهم، وبالطبع القمع الذي لا يحتاج إلى تبرير، وبالتأكيد السلطات لم تغلب في إيجاد تهم أخرى، بل قائمة من التهم المعلبة.
قائمة القابعين في سجون مصر الآن طويلة: محمود أبو زيد أو "شوكان"، عمرو بدر، محمود السقا، عبد الله الفخراني، سامحي مصطفى، محمد العادلي، إبراهيم الدراوي، وعشرات الأسماء الأخرى، ولأن الأمر ليس مجرد أرقام، فهنا مزيد من حكاياتهم، وهنا وقفات لذويهم.
المغيبة أقلامهم
"إذا أردت أن تقتل صحفيا دون أن يعاقبك القانون هناك طريقة نظيفة جدا لذلك، امنعه من الكتابة، وامنحه راتبه وسوف تموت روحه ويرحل شغفه خلال ثلاث سنوات على أقصى تقدير".
العبارة لرئيس مجلس إدارة إحدى الصحف القومية في عهد مبارك، كانت هذه هي طريقته الناجعة في القضاء على صحفيي مؤسسته "المشاكسين" الذين لا يقدمون له فروض الطاعة، إضافة إلى أدوات قمع أخرى أكثر حدة، مثل منعهم من الدخول إلى مكاتبهم أو مقاضاتهم لفصلهم، هؤلاء نعم لم يسجنوا، لكن تم تجميدهم مهنياً، وتهميشهم وإغلاق المجال الكتابي أمامهم؛ لأن كما نعلم، لا صوت يعلو على صوت محاربة الإرهاب.
الباقون على العهد
عندما نشر زميلنا الصحفي المصري محمد الجارحي متابعات ما حدث في نقابة الصحفيين المصريين علي صفحته في فيسبوك، بعد اقتحامها من قوات الشرطة والقبض على صحفيين فيها أول أمس، الأول من مايو/ آيار، لاحظت أن تعليقات البعض تراوحت بين "الشماتة" فيما حدث للصحفيين، وبين التذكير بالدور الذي لعبه "بعض" أفراد الجماعة الصحفية في مصر.
كتب أحدهم: "أنتم السبب في انقلاب السيسي يا شوية كدابين"
وأبدى آخر عدم اهتمامه بما حدث قائلا:
"اقتحام نقابة الصحفيين مش أسود من إبادة سيناء بالكامل، ولا قتل وحرق الشباب أحياء، ولا بالتعذيب في المعتقلات، ولا انتهاك عرض البنات في المعتقلات، ولا حرق الشباب في سيارات الترحيلات، ولا تصفية الناس في بيوتها، ولا كل جرائم وانتهاكات ومجازر ومحاكم التفتيش اللى بيتبعها السيسي وعصابته".
وقال ثالث: "لا شماتة، لكن لم تأت سنة مثل السنة التي حكم فيها الرئيس الشرعي محمد مرسي، أزهى عصور الحرية".
وبالطبع كانت هناك تعليقات كثيرة بعضها يتوعد الشرطة، والبعض يتأسى على ما وصل له حال البلاد.
وهو أمر ليس عصياً علىَّ فهمه، رغم أنه في الظروف العادية ربما يكون مستغرباً أن "يشمت" الشعب في السلطة الرابعة، التي من المفروض أن تمثله.
إذا كنتُ قدر أدركت شيئا في عملي الصحفي على مدى عشرين عامًا فهو الآتي:
أفدح الأثمان يدفعها الذين يقفون وحدهم في صف الحق، أو ما يظنونه الحق، غير آبهين بأي شيء آخر، لا يحكمهم سوى ضميرهم ورؤيتهم، وهي بالطبع رؤية قد يشوبها التشوش أحيانًا، خاصة في المراحل الضبابية كالتي مرت بها البلاد خلال الخمس سنوات الأخيرة.
وبالطبع يخطئون، وبالطبع يحاول بعضهم تصحيح خطئه.
هذه الفئة فضلًا عن أنها تتحمل، غالبًا، النصيب الأكبر من شظايا المعركة، وبالتأكيد لا تحظى بأي من الغنائم التي تحظى بها هذه الفئة أو تلك، فإنها تتلقى الركلات والضربات من الجميع، وتنال نصيبًا موفورًا من اتهامات الواقفين خارج المشهد، وأحيانًا الشعب.
أتعس الأوقات لهذه الفئة من الصحفيين هي الأوقات التي مررنا ونمر بها الآن، وقت المعارك الكبرى والتحولات، هؤلاء الذين يودون أن يحتفظوا بمساحات استقلالهم المهني والفكري ويودون أن يكونوا تابعين فقط لضميرهم، لا يحملون أي شارة سوى شرف مهنتهم، يتلقون الصفعات من اليمين والشمال، ممن حسموا خياراتهم مبكرًا وقرروا أن يصطفوا تحت هذه الراية أو تلك.
يتلقون الاتهامات والتنكيل ويواجهون الطرد من عملهم، وليس السجن عليهم ببعيد، وأحيانا يضطرون للانزواء أو الصمت، أثمان فادحة يدفعها هؤلاء، لكن هل تعلم ما هو الثمن الأفدح الذي لا يجب على هؤلاء أبدًا دفعه؟
أن يُنسوا ويقعوا من ذاكرتنا الجمعية التي يبدو أنها لا تحتفظ إلا بالأعلى صوتًا، مهما كانت هذه الأصوات العالية قبيحة.
من هؤلاء الذين لا يجب أن تقع أسماءهم وأعمالهم من الذاكرة الجميعة للوطن: زينب محمد (الصحفية المصرية التي تستطيع متابعتها على تويتر باسم زنوبيا Zeinobia).
خالد البلشي رئيس تحرير أحد أهم المواقع المستقلة الهامة في مصر "البداية".
أحمد رجب، ألفة جيله من الصحفيين المصريين المتخصصين في التحقيقات، ورفيق دربه مصطفى المرصفاوي، صحفي التحقيقات الذي صنع السبق الأهم في الصحافة الاستقصائية في مصر في السنوات الأخيرة، "موت في الخدمة" الذي يستعرض حوادث متعددة لمقتل جنود مصريين بسطاء أثناء تأديتهم خدمتهم في صفوف قوات الأمن المركزي.
كارم يحيى، وحنان حجاج، وكثيرون من الزملاء الذين يعملون في الصحف القومية في مصر، ولا يدينون بدين سياسات مؤسساتهم التحريرية.
لينا عطا الله وفريقها في مدى مصر، ومي شمس الدين، وهبة محفوظ.
عشرات المصورين الصحفيين المصريين الذين يكونون دائما الأقرب لرصاص الشرطة وعنف جيشها غير الرسمي من البلطجية.
" المحتفى" بهم في الكتاب الأسود الصحافة العربية
فئة "فريدة" ومختلفة عن كل الفئات السابقة، وهي الفئة الوحيدة التي تستحق أن يُحفر اسمها "بالدم" في التاريخ، فهم الذين ساهمت كلماتهم المسومة في إراقته، هؤلاء ليس مكانهم الأمثل هذا المقال، هؤلاء يستحقون الكتابة عنهم في مكان آخر، في كتاب مخصوص، ولنسمّه "الكتاب الأسود للصحافة العربية".
هؤلاء شاركوا السفاحين سفح الدماء، بكلماتهم وميكروفوناتهم المسمومة التي كانت أحيانا الأسلحة الأكثر فتكاً، حرضوا على استباحة الدم، ورقصوا – حرفيا- على الجثث، فهل نترك هؤلاء يرحلون دون نصيب وافر من العار؟
لماذا لا نصنع كتابا أسود لهؤلاء الذين وقفوا رغما عنا في نفس المساحة التي نقف فيها وحملوا- وياللعار – نفس ألقابنا، كتابا وصحفيين وإعلاميين ومذيعين ومصورين؟ نبرئ ذمتنا منهم ونشهد التاريخ عليهم.
نحن لا نقف ضدهم ولا معهم بالتأكيد، نحن فقط نوثق جرائمهم، التي وللأسف، ارتكبت باسم مهنتنا.
قائمة العار طويلة، أكثرها حضورًا في الذاكرة الآن الصحفية السورية "كنانة علوش" التي التقطت لنفسها صورا مع جثامين شهداء سفاح العصر وهتلر القرن بشار الأسد، وهي تبتسم وأحيانًا ترفع علامات النصر.
وفي مصر قائمة العار لابد أن تضم صحفيين كثر، منهم الإعلامي أحمد موسى صاحب المقولة الشهيرة: "أنا عاوز أشوف دم، جثث بالعشرات والمئات، لا أريد أن يُلقى القبض على أحد أريد دم".
إذا كنا اليوم نحتفي بحرية الصحافة… فلن تكون مهنتنا حرة دون أن نلقى أكاليل الغار على رؤوس الذي حموا شرفها وحملوا أمانتها، دعونا في هذا اليوم نرسل أكاليل الغار لهؤلاء، ودعونا أيضاً لا ندع هذا اليوم يمر دون أن نهيل العار على رؤوس من يستحقونه أيضاً.
دعونا لا ندع اليوم يمر دون أن نقف مع أنفسنا نذكر أنفسنا بأخطائنا، نمجد شهداءنا نتضامن مع سجنائنا.
دعونا نذكر من بقى يحارب من أجل مهنة مهمتها أشرف ما في الوجود: "الحقيقة.. الحق.. الحرية".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.