عشرة أيام من الدماء والدمار والركام مرت، عشرة أيام وغاليتي تحتضر تحت المدافع والقنابل والطائرات والحرائق، عشرة أيام وتاريخ الشرق وثقافته تحترق، عشرة أيام وعروس الشرق غارقة بالدماء، والعالم! تباً لهذا الخذلان.
عشرة أيام وحبيبتي تموت من قلة الحياء، من قلة الوفاء، من قلة الإخاء.
إياكم والتوهم بأن أميركا أو الغرب يتألمون لأجل هذا الشرق الغارق في الظلام، حذارِ من انتظار الحلول القادمة من البيت الأبيض، سواء رحل أوباما أم لم يرحل، وحذار من انتظار الحلول السحرية من جولات كيري المكوكية، فقلق مجلس الأمن واجتماعات جنيف الفاشلة وحلول البيت الأبيض لم تعُد تجدي وسط هذا الإعصار الدموي الذي يجتاح حلب الشهباء.
لكن لماذ نلوم الغرب إذا كانت جامعتنا العربية مشلولة؟
كل الحلول باتت تخديراً مؤقتاً.
لم نعد ننتظر لا مؤتمرات ولا اجتماعات ليس لأننا مصابون بتخمة المجالس والمؤتمرات، بل لأننا نعلم أن أقراص البانادول التي تصرف بعد كل اجتماع لا تشفي أمة نصفها مصاب بالشلل ونصفها في غيبوبة منذ زمن.
تلك الأقراص لن توقف النزيف، الأمة تنزف.. تنزف.. عاصمة الثقافة الإسلامية تحترق، نريد أن نضمد جراحنا أولاً نريد إيقاف النزيف قبل البحث عن العلاج.
في زمن الأمراض المزمنة لم تعد أقراص البانادول تجدي.
في زمن الفجائع والمصائب، في زمن الموت العربي.
ها هي حبيبتي تحترق أمام العالم الصامت، أين الأنوار التي أُطفِئت لأجل باريس؟ لماذا لم تنطفئ لأجل حلب؟ أين الشموع التي أشعلت لأجل باريس؟ ما بالها تجمدت عند أسوار حلب؟!
ليست حلب التي تحترق، قلوبنا احترقت قبل حلب، التاريخ كله احترق في عاصمة الدولة الحمدانية.
منذ عشرة أيام وصوت انفجار القنابل وأزيز طائرات الحقد الروسية العلوية، وأدخنة الحرائق في سماء حلب، منذ أيام والذاكرة مخزن للأشلاء المقطعة والجثث المكدسة تحت ركام الحقد الطائفي.
منذ أيام وسيف الدولة يصرخ: هذه حلب، هذه عاصمة الثقافة والتاريخ والإسلام، هذه حلب ما بال حقد الطغاة لم يترك منها حجراً فوق حجر!
منذ أيام وأقدام الموت تتجول في حاراتها القديمة، في الشوارع والمستشفيات، لم تعد بقع الدماء تلطخ الأرض والشوارع، بل صبغت الأرض باللون الأحمر، بالحقد الأحمر المتساقط من طائرات الموت التي تحلق في سماء حلب.
كل شيء مظلم، قلوبنا، واقعنا، كتاباتنا، سواد حالك يحيط بِنَا، الضوء الوحيد الذي ينير المدينة هو ضوء القنابل والمدافع ونيران الحرائق.
كتبنا عن الصمت، والتخاذل، صرخنا: صمتكم يقتلنا، كبرنا فوق ركام المآذن، بسملنا وحوقلنا وبأعلى أصواتنا صرخنا: "يا الله ما لنا غيرك يا الله".
ما فائدة الكتابة في هذا العالم المتأجج سواداً؟ ما فائدة الأقلام الموقوتة إذا لم تتحول إلى مضادات للطائرات؟
ما الفائدة من وضع الصور الحمراء على مواقعنا في تويتر وفيس بوك؟ هل ستحمي حلب وأهل حلب؟ أم هي تعبير عن ضعفنا وقلة حيلتنا؟ فهذا أقصى ما نستطيع فعله؟
دعوا مجلس الأمن والجامعة العربية، والمؤتمرات وقاعات الاجتماعات في سبات، لا تزعجوهم بصرير أقلامكم وصراخكم حلب تحترق، أغيثوا حلب أنقذوا حلب، حلب تناديكم، حلب تحت الحصار.. حلب.. حلب.. حلب؟.
فطعم الخبز المغمس بالدماء ليس سيّئاً، وما عاد طعم الدم المعدني يزعجهم، لا تقلقوا عليهم، وفروا قلقكم لموت آخر فحلب وأهل حلب صامدون رغم الوجع.
لا تزعجوا أقلامكم ولا تلوثوا أوراقكم، فقط كسرة خبز وشربة ماء تطيل عمر عذابنا دون أن تنهي مأساتنا.
دمرت منازلنا كبرت مأساتنا، تكاثرت هزائمنا لكننا ازددنا قوة، نعم نحن اليوم أقوى ما عاد الموت يفجعنا، ولا أصوات المدافع والطائرات ترعبنا.
لن نصدق بعد اليوم كل تلك الكتب التي حدثتنا عن بطولة وشهامة العرب.
لن نصدق بأن العرب أمة واحدة، بل إن كان للوحدة نقيض فهم العرب.
لن نأسف على شيء بقدر أسفنا على كتب التاريخ التي درسناها، وأناشيد الطفولة التي حفظناها، وأغاني الانتصارات العربية التي رددناها.
كذب.. كذب .. كذب.. معاركنا كذب، انتصاراتنا كذب، بطولاتنا كذب، الأراضي المحررة كذب، الصدق الوحيد هو هذا الواقع المظلم الذي نعيشه. في مدن الظلام القابعة تحت أدخنة المدافع، المدن التي عانت من ويلات المعارك، نحن جيل الحرب العربية.. حرب القادة على الشعوب، نحن جيل لم يكتفِ الحاكم بقتلنا، بل أحضر كل طغاة الأرض لتشارك بذبحنا، نحن جيل النكبة والنكسة العربية .
أضعنا كل شيء، ضاعت بغداد الحضارة، ويمن العروبة ، وشام التاريخ والثقافة.
في دمشق القذائف ويمن المدافع وبغداد الشظايا والمكائد، في حلب الحرائق تحولت الحضارة والتاريخ والعروبة إلى رموز للموت والقهر والخوف.
في بداية الربيع الدامي حاولنا عقد صلح مع الربيع، صرنا نحمل الأزهار بأيدينا لنقنعهم بأنه الربيع، لكن صوت انفجار القنابل والمدافع كان يحرق الأزهار ويفتتها، حوَّل الأزهار إلى خناجر، والحناجر التي تصدح بالسلمية إلى صافرات إنذار.
تحولت أطواق الياسمين إلى مشانق، كانت المأساة تكبر وتكبر إلى أن ابتلعت ماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا.
علينا أن نعمل معاً فمأساتنا بحاجة لعمل مشترك، علينا أن نتوقف عن لعن وسب هذا العالم الصامت، دعونا نعترف بالأعداء المختبئين في عباءة الصداقة الكاذبة، دعونا نخرج من جهنمية السياسة ونطفئ لهيب الحراق.
الواقع مؤلم حقاً، الصورة قاتمة، لكننا ما زلنا نمتلك بذرة أمل في إنقاذ ما تبقى، نبتتة الأمل ترتوي بالعمل المشترك لا بالدم فقط.
رغم الأدخنة والحرائق، رغم القنابل والمدافع، رغم الانهيارات والانكسارات، رغم الصمت والتخاذل، رغم خذلان العرب وحقارة الغرب، رغم محاولات تخديرنا حتى ينتهي الطغاة من قتل آخر طفل، فإننا باقون صابرون صامدون، إنها حلب لن تطفأ أنوارها؛ لأنها حلب.
"ونحن أناس لا توسط عندنا.. لنا الصدر دون العالمين أو القبر.. أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا.. وأكرم من فوق التراب ولا فخر" (أبو فرأس الحمداني).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.