تتضارب الآراء وتتباين الرؤى في تقييم تجربة الربيع العربي المصرية وثورة 25 يناير/كانون الثاني وتوابعها، وتتوجه أصابع اللوم تارة، والتوبيخ تارة أخرى، لجماعة الإخوان عامة، وللدكتور محمد مرسي، خاصة على الأخطاء الشنيعة -بزعمهم- التي ارتكبوها، والكثير ممن تبنوا هذه الحملة النقدية لا يحددون بالضبط أي هذه الأخطاء يعنون، ويقتصرون على عبارات هلامية من أمثال هذا نتيجة ما فعله الإخوان وثمرة أخطائهم، والبعض ذكر مفردات لها لا تعدو كون معظمها اجتهادات فردية وحركية يسع الجميع الاختلاف فيها، فلم تكن وحياً معصوماً أعرض الإخوان عنه، ولا قواعد ثابتة أجمع عليها العقلاء على مر الزمان وتنكر لها الإخوان.
لكن أبرز الإشكاليات المطروحة من قِبل المناكفين "السلبية المفرطة التي تعامل بها الدكتور مرسي مع رموز الدولة العميقة"، والتهاون في اجتثاث جذورهم واستئصال شأفتهم.. وهذا نقد يفتقر معه إلى تقديم الحل سوى مفهوم المخالفة من التعامل معهم بقسوة ودموية.
فهل كان الدكتور مرسي ملزماً بعمل ما عمله قادة الانقلاب فور إعلانه من غلق القنوات الدينية واعتقال الإخوان والمحاكمات العشوائية وغيرها من الإجراءات التي يعلمها القاصي والداني؟
ونقول إنه لا بد أن يعلم الجميع من دعاة هذا الطرح أن الدكتور محمد مرسي رجل متدين له ضوابط وحدود شرعية يتعامل بها، خلافاً لما تعود عليه جمهور ساسة العصر ممن يقرون بأنفسهم بأن السياسة لعبة قذرة، فهل تريدون من رجل يحفظ كتاب الله تعالى بين صدره، وعاش عمره الذي تجاوز الستين لنصرة الحق ونبذ الظلم.. هل تريدون منه أن يتبنى نهج الانقلابيين، وهو الذي تشرب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيمة".
هل يغامر الرجل بدينه وعقيدة وعمره وعمله، ويلقى الله تعالى بظلم أو دم هذا أو ذاك، وهو يعلم يقيناً قول الله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء:93].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.."، وقوله: "خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق.."، وقوله: "لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً..".
هل تريدون من الدكتور مرسي أن يتنازل عن ثوابتنا الإسلامية السامية من أجل السياسة أو القيادة أو في حب مصر كما يقولون؟.. ومتى كان الحق يتوصل إليه بالباطل؟ وكيف يبارك الله لأمة تستسيغ الظلم وإن ظُلمت في خاصة نفسها؟.
إن الدكتور مرسي ورفاقه عاشوا رسالة تجرعوا من أجلها مرارة الظلم والحيف والجور، حسبة لله تعالى، وابتغاء مرضاته، فلا يعقل أن يسقوا مخالفيهم من نفس الكأس، وإلا فقل على المبادئ السلام، وكبر عليها أربع تكبيرات.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].
إن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- رغم عدله الواسع المنتشر وسيرته الحسنة، فإنه كلف -عندما كان أميراً على المدينة من قِبل بني أمية- أن يضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير، وكان خبيب رجلاً صالحاً، فضربه وتركه في برد المدينة القارس الشديد، حتى مات خبيب في البرد، فكان عمر كلما ذكر ذلك بعد أن ولي الخلافة يبكي ويقول: من لي بخبيب؟! من لي بخبيب؟! من لي بخبيب؟! ويتأسف غاية الأسف على الذي صنعه به. بل كان عمر إذا قيل له: أبشر، قال: كيف وخبيب على الطريق؟!
وقال عليه الصلاة والسلام، كما في رواية المسند: "إن المقتول يأتي يوم القيامة آخذاً بتلابيب قاتله معه رأسه، يقول: يا رب! سَل هذا فيما قتلني؟. فيقال: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيبوء بإثمه وإثمه فيتحمل القاتل كل ذنوب المقتول، ويكون من أصحاب النار"، عياذاً بالله.
ولو قلنا برأيكم يا أيها الممتعضون من الإخوان وحكمهم، لابتلع كل فصيل مخالفيه فور التمكن منه بالسلطة، ولصارت سنة الطغاة هي قواعد السياسة المعمول بها، فأي فضل للدكتور مرسي ورفاقه؟ وأين دين هذا الذي تسربلوا به؟.. فعن عمرو بن عثمان، عن أبيه، عن جده؛ قال: كتب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- إلى عدي بن أرطاة: "بلغني أنك تستن بسنة الحجاج، فلا تستن بسنته؛ فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها، ويأخذ الزكاة من غير حقها، وكان لما سوى ذلك أضيع".
أما ما هو فيه الدكتور مرسي الآن من الحبس والاضطهاد، فعند الله تجتمع الخصوم، ويكفيه أنه لم يغدر كما غدر غيره، ولم يظلم ولا جار ولا بغى (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) [طه: 111] وكفاه شرفاً براءته من دماء الرعية التي لوثت أيادي غيره.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ أَنْتَ يَا أَبَا ذَرٍّ وَمَوْتاً يُصِيبُ النَّاسَ حَتَّى يُقَوَّمَ الْبَيْتُ بِالْوَصِيفِ، يَعْنِي الْقَبْرَ، قُلْتُ: مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ أَوْ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: تَصَبَّرْ. قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ وَجُوعاً يُصِيبُ النَّاسَ، حَتَّى تَأْتِيَ مَسْجِدَكَ فَلَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى فِرَاشِكَ، وَلَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى مَسْجِدِكَ. قَالَ: قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ أَوْ مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ. قَالَ: عَلَيْكَ بِالْعِفَّةِ. ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ وَقَتْلاً يُصِيبُ النَّاسَ، حَتَّى تُغْرَقَ حِجَارَةُ الزَّيْتِ بِالدَّمِ. قُلْتُ: مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ. قَالَ: الْحَقْ بِمَنْ أَنْتَ مِنْهُ. قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا آخُذُ بِسَيْفِي فَأَضْرِبَ بِهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ شَارَكْتَ الْقَوْمَ إِذاً، وَلَكِنْ ادْخُلْ بَيْتَكَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ دُخِلَ بَيْتِي. قَالَ: إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ طَرَفَ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ، فَيَبُوءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ، فَيَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.
هذا ديننا وتلك مبادئنا فليأتِنا المخالفون بدليل غير ما ذكرنا نرتكز معهم عليه، أما الآراء والتأويلات فساحتها واسعة، ولن تجمع الكلمة غير الثوابت الربانية والسنن المصطفوية.
تناسى الجميع أن الدكتور مرسي لم يتقاضَ مرتباً فترة توليه، وأنه كان محافظاً على صلاة الفجر التي لا يحافظ عليها منافق، وأنه وصل إلى سدة السلطة بانتخابات حرة نزيهة لا غدر فيها ولا جور.
تناسى الجميع أن كل ما نقموا عليه في الإخوان جمعياتهم الخيرية التي كانت تنفق على الأرامل واليتامى والثكالى، ومدارسهم التربوية التي كانت تربي أبناءنا على صبغة الإسلام، ولم يوجد لهم تسريبات ولا فيديوهات مخلة، أو أموال مهربة، أو وثائق مشينة.
كل هذا ذهب أدراج الرياح، وتناساه القوم عن قصد؛ لأن موازين الشرف والطهر صارت لا قيمة لها في هذا الزمان إلا عند ثلة من الكرام وقليل ما هم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.