ملحوظ: هذه التدوينة بها بعض العبارات باللهجة العامية السورية.
أذكر هذا اليوم جيداً. يوم في مطلع شهر أبريل من عام 2002 كان عمري وقتها 17 عاماً. خرجت من غرفتي لأجد أبي لا يجهش بالبكاء فحسب.. بل ينتحب.
يرتكز بمرفقه على مسند الأريكة مخبئاً وجهه في كفه. وتقطع ارتجافاته وشهقاته ترديده: "لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا حول ولا قوة إلا بالله".
كانت أمي تقف جواره واجمة.. أشارت لي ألا أصدر صوتاً وأن أعود مجدداً لغرفتي فنفذت في ذهول.
أبي الرجل الشديد، القوي البأس.. الذي لم أر دموعه من قبل.. أجده ينتحب! لابد أن الأمر جلل.. تساءلت: هل فقد عزيزاً لديه في سوريا! ولكني علمت يومها أن قوات الاحتلال الإسرائيلي قامت بمجزرة في مخيم جنين. ترك أبي المنزل هائماً على وجه وتركني أتساءل: هل لم يعد بوسعنا جميعاً سوى التضامن بالدعاء وبالبكاء؟
***
أذكر هذا اليوم جيداً أيضاً، يوم أن كنت في زيارة لمنزل والدي بعد وفاة أمي بعامين وتحديداً في منتصف شهر ديسمبر من عام 2008. كنت أعد لأبي حساءه المفضل، بينما يتابع هو نشرة الأخبار كعادته. انتفضت في المطبخ وأنا أسمع صوته مدوياً مهللاً يأتيني من الخارج فجأة:
تفي عليه.. يستاهلها.. والله بيستاهل مليون صرماية.. يلعن عرضه وعرض جنوده..
هرعت للخارج.. ماذا حدث يا أبي؟
بأسارير منفرجة وصوت مشدود أشار للتلفاز..
صحفي عراقي رمى بوش بالصرماية.. رجّال.. والله رجّال..
بعفوية ودون لحظة تفكير باغتنا لساني: "بس دي وسيلة اعتراض مش حضارية، وبيتهيألي إن.."، قاطعتني انتفاضة أبي من مكانه ونظر لي مذهولاً لوهلة ثم انفجر فيّ مدوياً بصوت دفعني للحائط خلفي بينما يقترب هو مني..
شو بِك؟ أنجنيتي إنتِ! شو يعني حضارية؟ مابتسمعي؟ مابتشوفي؟ بتعرفي كام حذاء داس أطفال العراق.. بتعرفي كام مَرَة اغتصبوها الجنود الأمريكان؟ كام شيخ قتلوا وكام شاب عذبوا وكم بيت هدموا وكم عائلة أبادوا.. بتعرفي إنتِ شي عن عن الإهانة.. عن الوجع.. عن الموت.. عن الخراب وعن الدم! بتعرفي إنه كان فيه شي اسمه بغداد انمحى من ع الخريطة؟!
بدك ياه عالم متحضر؟ حاضر يا بابا.. بروح كرمالك أقول له، بعد ما يقتلوا عيلتك ويغتصبوا مرتك ويدمروا لك بلادك إرميهم بالورد.. منشان بنتي بتحب التحضر..
حاولت السيطرة على فزعي واستجماع صوتي لأهدأ من جموح أبي..
"بابا..أنا مش بوش..".
رجع أبي خطوة للوراء.. صمت لثوانٍ وبعدها نظر في عيني نظرة أسف..
بتعرفي أنا ليش راح جن هيك.. لأن الصرماية ما إجت بوشه..
في تلك الثانية كان موجز أهم الأخبار يعيد لقطة قذف الصحفي "منتظر الزيدي" لجورج بوش بالحذاء..
فأنحنى أبي بسرعة والتقط خفه وقذف به التلفاز بعدها قال ببطء مقصود،
قومٌ إذا مس النعالُ وجوههم .. شكت النعالُ بأي ذنبٍ تُصفعُ
ضحكت أنا وابتسم هو كي يتمالك دموعه قائلاً: الله يفك كربهم.
تساءلت داخلي مجدداً: هل لم يعد بوسعنا جميعاً سوى التضامن بالدعاء وبالبكاء؟
أذكر هذا اليوم جيداً بالتأكيد، سنوات مضت على وفاة أمي وأبي، تحديداً في مطلع شهر مارس من العام الحالي 2016، لفت نظري على مواقع التواصل الاجتماعي خبر بعنوان "يونيسيف في الأردن تنهي عقودها مع شريكة الاحتلال "G4S"
لم أكن أعلم عن نشاط شركة G4S لذلك قررت البحث، وهالني ما علمت وتحققت منه وهو كالتالي..
شركة G4S شريك الكيان الصهيوني بأشكال عدة موثقة من قبل مؤسسات حقوق الإنسان العالمية وهي متهمة بانتهاك القانون الدولي من خلال تقديم الخدمات الأمنية للسجون والمعتقلات الإسرائيلية، حيث يعذب ويقتل الأسرى من الشعب الفلسطيني. ففي عام 2007 وقعت G4S في إسرائيل عقداً مع خدمات السجون الإسرائيلية مثل كتزيوت – مجدو – الدامون، ومعسكرات الاعتقال مثل كيشون وأورشليم.
وجميعنا نذكر بالطبع "عرفات جرادات" الأسير الفلسطيني من بلدة السعير في الضفة الغربية والذي استشهد مؤخراً تحت التعذيب في سجن مجدو الإسرائيلي بعد اعتقاله بستة أيام.
G4S مدانة أيضاً بتعذيب الأطفال، حيث تم القبض على 7500 طفل لا يتجاوز عمرهم 12 عاماً، تم القبض عليهم خلال 11 عاماً بما يعادل طفلين يومياً. ولهذا السبب أعلنت اليونيسيف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) إنهاء عقدها مع شركة G4S.
بحثت مجدداً لأعرف كيف تضامن العالم أيضاً ضد تلك الانتهاكات فوجدت أن مؤسسة دياكونيا الحقوقية في السويد أصدرت تقريراً قانونياً يشير إلى علاقة G4S المباشرة بانتهاكات القانون الدولي التي ترتكبها إسرائيل وطالبت دياكونيا شركة G4S بإنهاء تواطئها ودعت المستثمرين في الشركة والجهات المتعاقدة معها لتحمل مسؤولياتهم القانونية المترتبة ووقف أي استثمار في الشركة المجرمة أو التعاقد على خدماتها.
أيضاً قامت بعض أكبر صناديق الاستثمار في الغرب، كصندوق "بيل وميلندا غيتس" (Bill and Melinda Gates Foundation) وصندوق استثمار الكنيسة الميثودية الموحدة (United Methodist Church)، بسحب استثماراتها من شركة G4S بعد التأكد من صحة المعلومات التي تثبت تورط الشركة في انتهاكات دولة الاحتلال الإسرائيلي للقانون الدولي.
كما أعلنت مؤخراً العديد من الشركات في جنوب إفريقيا إنهاء التعاقد مع G4S لذات الأسباب واستجابت العشرات من المؤسسات الأخرى حول العالم وآخرها بلدية كرون في هولندا والتي ألغت عقدها مع G4S والبالغ 28.4 مليون يورو.
علمت آسفة أن لشركة G4S المجرمة فرع بمصر، لذلك لن أكتفي بالدعاء وبالبكاء فقد علمت أن للتضامن طرقاً أخرى بت أعرفها، وما استطاع شباب الأردن بالفضح وبالضغط أن يحققوه يمكننا أيضاً تحقيقه في مصر طالما هناك من هو معنيّ بحقوق الإنسان. لذلك أدعو ومعي الكثيرون لإنهاء تعاقد جميع الشركات مع G4S ومثيلاتها من الشركات الدموية المجرمة في مصر.
وسأخبر أبي عندما يأتيني في حلم بأنني بت أستطيع بتحضر وبشكل فعّال أن أساعد في رفع الظلم عن أناس يعانون، إلى أن ألحق به في عالم عادل لا يعاني ويعذب فيه الإنسان ولا يعتقل ولا يقتل به الأطفال.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.