مشاعر متضاربة اعترت السوريين الثائرين على نظام الأسد، على إثر الغارة الدولية، على الأرجح، التي استهدفت مقراً لجبهة النصرة في إدلب، وقتلت عدداً من قيادييها، بينهم الناطق باسم الجبهة، رضوان نموس، المعروف بـ"أبو فراس السوري".
لم يعد خافياً حجم التوتر الذي يخلفه سلوك جبهة النصرة ونهجها العدواني في مناطق إدلب بشكل خاص، وحجم الحنق الذي بات يكنه المدنيون والفصائل العسكرية الإسلامية، وتلك التابعة للجيش الحر على حد سواء تجاه الجبهة، نتيجة سلوكها الآخذ في المزيد من العدوانية والاستئصال تجاههم في الآونة الأخيرة، والذي تمثل في استئصال أكثر من 10 فصائل بشهادة حذيفة عبدالله عزام، وكذلك خطاب بعض قادتها التكفيري المتشنج منذ أمد طويل، وعلى رأسهم أبو فراس غفر الله له.
تذكر السوريون عندما سمعوا بمقتل نموس تلك الصورة المنفرة، التي كان يرسمها لنفسه عندما يعلق على الأحداث العامة، سواء في تسجيل مصور أو في مقالة مكتوبة، فقد حرص على توجيه خطاب استعلائي سلطوي يغص بالتهديد والوعيد، ناهيك عن نزعة التكفير البينة، لكن أبا فراس يظل سورياً، وهو "منا" وإن خرج علينا، وقد كانت له سابقة في مقارعة النظام وإيذائه في الثمانينيات، كما في السنوات الماضية من عمر الثورة، ما هو الموقف إذن من قتله سواء بنيران محلية أو دولية؟ وهل يمثل أبو فراس ومعه النصرة عدواً صريحاً للشعب السوري يفرح الناس لفنائهم، أم أن المسألة ليست على هذا النحو إطلاقاً؟
جبهة النصرة منذ ظهورها كانت على صلة وارتباط بتنظيم القاعدة، وبشكل أدق بتنظيم الدولة في العراق، ولكنها حرصت منذ الأيام الأولى لانطلاقها على كتمان هذا الأمر، واقتصار هجماتها على قوات الأسد، كما أبدت قدراً كبيراً من التنسيق تجاه الفصائل المقاتلة معها في نفس الساحات، وابتعدت عن إزعاج الحاضنة الشعبية غالباً، حتى أعلن البغدادي تبعيتها لتنظيمه، الأمر الذي نتج عنه تنظيمان، أحدهما دان بالولاء لزعيم تنظيم الدولة، والآخر حافظ على ولائه لأبي محمد الجولاني، ورضي خياره في النأي بنفسه عن البغدادي وتنظيمه، ولكن بثمن بلغ إعلان البيعة لأيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة. ومع اندلاع المعارك بين النصرة عندما كانت في مرحلة ضعفها وتنظيم الدولة، وتصنيف التنظيمين على قوائم الإرهاب الأميركية والدولية، قابل السوريون الأمر بالدفاع عن النصرة وطالبوا باستثنائها من الإرهاب، متغافلين، عن جهل لدى البعض ومكابرة لدى البعض الآخر، عن نهجها القاعدي التكفيري وتاريخ هذا النهج الهدام في ثورات الشعوب وحركاتهم التحررية.
هذا الموقف العزيز من الشعب السوري لم تبد له النصرة كبير وفاء بعد تعاظم قوتها وتدفق السلاح والمال عليها، فبدأت تغير نهجها في التعامل مع الحاضنة الشعبية، وبدأت نزعة السلطة والإمارة تبدو للعيان من غير إعلان، وراحت تسابق الزمن في فرض سطوتها بصفتها "دولة" لا مجرد فصيل، ومنذئذ شرعت بالتخلص من الفصائل المنافسة لها، وكل الفصائل غير المبايعة لها بنظرها منافسة، واحداً تلو الآخر، مبتدئة بالأبعد ثم الأقرب فالأقرب، ناهيك عن حملة الاغتيالات في صفوف قيادات الفصائل عبر ذراعها الغادرة "جند الأقصى".
ليتبين للسوريين بعد كل ذلك أن النصرة ليست شيئاً مختلفاً تماماً عن داعش، وأن الانشقاق الذي حدث بين التنظيمين هو "خلاف في البيت الواحد"، وبين "إخوة منهج" كما نُقل عن الجولاني لاحقاً، حيث بقي تيار موالٍ لداعش، أو على الأقل يستلهم منها في النصرة وآلت القيادة إليه في نهاية المطاف، ما فجر شلالاً من الدماء بين السوريين، وانعكس في إهانة الثورة في مظاهرها ورموزها وقمع الأصوات المطالبة بالعودة إلى مطالبها الجوهرية البسيطة.
بعد كل ذلك، لم يعد ثمة شك في أن بقاء النصرة على وضعها الحالي ينطوي على تهديد شبه مباشر للثورة السورية ومسارها العام، وتأكد ذلك بعد الاتفاق الأميركي – الروسي الذي فرض على الساحة هدنة استثنت النصرة وداعش، وإن لم يكن جميع ما سبق، هذا الاتفاق كافٍ لدفع قادة النصرة لإعادة النظر في نهجها وأسلوبها وصلاتها التنظيمية، فقد كان هذا الاتفاق ليحمل أي فصيل مكان النصرة إلى سلوك جميع الطرق الكفيلة بعدم تحوله إلى قطب عسكري تجتمع لحربه الأمم، كإعلان قطع صلتها بالقاعدة، وهو أقل تكلفة من بقية الطرق، وربما يكون قد فات الأوان على صلاحيته، وأيضاً إعلان حلها وتأسيس أكثر من فصيل بأسماء وأشكال ورموز جديدة، لو توفر صدق النوايا في مقولة "ما جئنا إلا لنصرتكم".
ولعلنا لا نبتعد عن ذلك كثيراً إن قلنا كنا نتمنى أن لا يُقتل أبو فراس قبل أن يفيق من سكرة التكفير ونشوة الاستعلاء، ونحزن لأنه اغتيل بأيد آثمة لم ترد لشعبنا خيراً يوماً، بل أساءت له يوم فتحت عليه أبواب جهنم بدخول القاعدة والمقاتلين الأجانب، ويوم قررت بالنيابة عن الشعب السوري أن الاولوية لمحاربة الإرهاب، بالتوازي مع منح الأسد شرعية الشريك في هذه الحرب.
وما زال الأمل قائماً في أن يصحو قادة النصرة وجنودها، لا سيما السوريون منهم، أهل الأرض الذين يفترض بهم الحرص على مصالح أبنائها، (مصالح الجماعة والمجتمع هي مصالح شرعية معتبرة) ليتخذوا القرار الصحيح، في تجنيب أنفسهم أولاً سلوك طريق "التدمير الذاتي"، وكذلك تجنيب الشعب الذي جاءوا أو خرجوا لنصرته تكلفة ارتباطاتهم التي لا تعني هذا الشعب في شيء وليس مضطراً لتحملها، والأهم من كل ذلك تجنيبه السقوط في فخ الاستبداد مجدداً بعدما ثاروا عليه لإنهائه بالكلية، ومنع قيامه تحت أي راية وفي ظل أي شعارات، فالشعب الذي "يريد تحكيم الشريعة الإسلامية" أدرى بشؤون دنياه، وبكيفية صوع شكل الحكم، والحاكم الذي يرتضيه، ولن يقبل بوصاية أحد عليه مهما كان الثمن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.