الموضوعية الغائبة

لا خلاص من السلطوية دون معارضة ديمقراطية حقيقية، ولا معارضة ديمقراطية دون ديمقراطيين يحترمون الحقيقة والمعلومة والنظر الموضوعي.

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/18 الساعة 02:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/18 الساعة 02:36 بتوقيت غرينتش

هذه أيام بالغة الإرهاق في مصر. حين يصبح نهج تغييب الحقائق وكَيّلُ الاتهامات الزائفة الذي يتبعه مؤيدو السلطوية الجديدة مُعْتَمَداً أيضا من قِبَلِ كثير ممن يعارضونها باسم رفض الظلم وطلب الحرية والديمقراطية، نكون إزاء فضاءٍ عامٍ نَزَعَ عن العقل وصارت بضاعتهُ الرائجةُ الوحيدةُ هي خليط الجنون والصخب.

أكاد أصرخ، ألا تبحثون عن المعلومة؟

عُذبَ وقُتِلَ باحثُ الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني في مصر، كما عُذِبَ وقُتِلَ العديدُ من المصريات والمصريين خلال السنوات الماضية.

انتهك حق ريجيني في الحياة، كما انتهت الحقوق والحريات على نحو تراكمي ومتصاعد منذ صيف ٢٠١٣.

عوضاً عن الاعتراف بالممارسات القمعية للأجهزة الأمنية والمطالبة بمساءلةِ ومحاسبةِ المتورطين فيها، بل عوضاً عن مجرد الإشارة إلى النتائج السلبية للمظالم والانتهاكات إما لجهة تآكل الثقة العامة في الأجهزة الرسمية أو لتهديد العلاقات الدولية للحكم (طبعا عندما يطول القمع "أجانب الدرجة الأولى"، كما في حالة الباحث الإيطالي).

أنتج مؤيدوا السلطوية الجديدة والأذرع الإعلامية روايات تبريرية عبثية وسقيمة لتبرئة الأجهزة الأمنية ولإلصاق جريمة قتل ريجيني تارة بحادثة مرورية، وأخرى بالهوى الجنسي للضحية، وثالثة بصراعات بينه وبين أصدقاء له من بلده، ورابعة "بعصابة مصرية متخصصة في خطف وسرقة الأجانب، بل والاحتفاظ بهوياتهم معها دون تفريط"، وغيرها.

وعلى هوامش تغييب الحقائق وترويج الجنون والصخب الإعلامي (في وسائل الإعلام التقليدية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي)، تداول "الجمع المؤيد" روايات عبثية أخرى حَضَرَ بها شيء من اللامعقول خفيف الظل.

كأن طَوَّرت رواية العصابة إلى إدعاء مَزَجَ أفرادها بين التخصص في خطف الأجانب وبين انتحال هويات ضباط وعناصر الشرطة المصرية أثناء "أداء" جرائمهم.

أو كأن خرجت بعض المواقع الإخبارية المصرية "باعتراف" من مجرم إيطالي "عتيد الإجرام" وضليع في خبراته مع "المافيا" بكونه كُلِفَ بقتل ريجيني من قبل أجهزة مخابرات معادية لمصر ولحكامها، وأبدى القاتل المحترف عظيم ندمه على فعلته.

وزُينَ "الاعتراف" بصور فوتوغرافية قيل أنها لمجرم ولغيره من الضالعين في المؤامرة على البلاد.

ولم تتوقف المواقع التي تداولت "الاعتراف" أمام حقيقة أن الصور الفوتوغرافية كانت للاعبي كرة قدم إيطاليين لهم شهرة عالمية أو أمام صمت الإعلام الإيطالي على القاتل المحترف.

أكاد أصرخ، ألا تتحرَّون القليل من الدقة وتعتبرون بالقليل من مقتضيات الموضوعية؟

وقَّعَتْ الحكومتان المصرية والسعودية اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية بينها، أقر فيه الطرفان بسيادة السعودية على جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر.

وما أن أُعلن عن الاتفاق، إلا وتورط الكثير ممن يعارضون السلطوية الجديدة في مصر طلبا للديمقراطية في ذات نهج تغييب الحقائق وكَيّلُ الاتهامات الزائفة بالتنازل عن الأرض والسيادة نظير الأموال والمعونات والمساعدات السعودية.

وكالنار في الهشيم سرت الاتهامات، وتعالت صيحات التخوين والتفريط، وراج خليط الجنون والصخب المغيب للحقائق والمعلومات.

لم يهتم غير قليل بالبحث في قواعد القانون الدولي المنظمة لسيادة الدول على مياهها الإقليمية ومناطقها الاقتصادية، تحديدا العهد الأممي لقانون البحار في مادته رقم ١٥ والمواد الأخرى التي تُنظمُ السيادة على المضايق والجزر الواقعة بها، وتلك هي وضعية جزيرتي تيران وصنافير ومضيق تيران في مدخل خليج العقبة في البحر الأحمر.

لم يهتم غير قليل بالأدبيات القانونية والأكاديمية الكثيرة، ومن بينها كتابات لأكاديميين مصريين، التي أقرت بوجود الجزيرتين في المياه الإقليمية السعودية ومن ثم بالسيادة السعودية عليهما.

لم يهتم غير قليل بمطالعة كتابات تاريخية تتناول تاريخ الجزيرتين اللتين سيطرتا عليهما مصر بطلب من الحكومة السعودية في عام ١٩٥٠ وفي ظروف الصراع العربي-الإسرائيلي ولم تدفع مصر بشأنهما بحقوق سيادية.

لم يهتم غير قليل بترسيم وزارة الخارجية المصرية في عام ١٩٩٠ للبحر الإقليمي وللمنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر الأحمر، والذي أخرج الجزيرتين من المياه الإقليمية المصرية اتساقا مع قواعد العهد الأممي لقانون البحار وقواعد القانون الدولي.

عوضاً عن أي من ذلك، تعالت صيحات التخوين والتفريط باسم وطنية زائفة وراج خليط الجنون والصخب إن باسم مقاومة زائفة للسلطوية الحاكمة في مصر أو باسم حرية التعبير عن الرأي التي استبيحت لتغييب الحقائق والمعلومات.

عوضاً عن أي من ذلك، استدعت أشباهُ حقائق وأنصاف معلومات عن الجزيرتين، أيضا وياللأسف من قبل خبراء أكاديميين، لتبرير كَيّل الاتهامات الزائفة باتجاه حكم يعارضونه ويدعون رفضهم لنهجه المناقض للعقل.

عوضاً عن أي من ذلك، كان نصيب ما كتبت عن تاريخ الجزيرتين والوضعية القانونية وسيادة السعودية إما الاغتيال المعنوي بادعاء عبثي مؤداه انتقالي من خانات معارضة السلطوية الجديدة إلى تأييدها، أو تسفيه طرحي بأقاويل متهافته مصدرها أشباه الحقائق وأنصاف المعلومات، أو اتهامي بمخالفة "الجمع المعارض والمطالب بالديمقراطية" وتسديد طعنة في الظهر للأصوات التي دفعته دون علم إلى كَيّل الاتهامات الزائفة للحكم بالتفريط في الأرض والسيادة، أو الهجاء الشخصي، أو الخلط دون موضوعية بين الموقف من قضايا وطنية كالتراب المصري والمناورة السياسية إزاء السلطوية الحاكمة.

أكاد أصرخ، ألا تلفتون إلى الموضوعي وتمتنعون عن المزايدة؟

فالحكم في مصر، وعلى الرغم من صحة الاعتراف بسيادة السعودية على تيران وصنافير، تعامل دون شفافية مع الأمر ولم يطرح الحقائق والمعلومات (بما في ذلك لجان مفاوضات بين الطرفين المصري والسعودي مستمرة منذ سنوات) على الرأي العام وكأن الأمر لا يعني الناس.

وهنا زاد لانتقادٍ موضوعي بالغ الأهمية، ومصدر للمطالبة باحترام قيم الشفافية وتداول الحقائق والمعلومات من قبل الحكم في مصر.

غير أن المزايدة كانت الأهم، ومازالت.

أكاد أصرخ، ألا ترون التماثل في نهج تغييب الحقيقة بين الروايات التبريرية بشأن جريمة قتل ريجيني وبين كَيّل الاتهامات الزائفة بالتنازل عن التراب الوطني في تيران وصنافير؟

لا خلاص من السلطوية دون معارضة ديمقراطية حقيقية، ولا معارضة ديمقراطية دون ديمقراطيين يحترمون الحقيقة والمعلومة والنظر الموضوعي.


هذه التدوينة نشرت على موقع القدس العربي للاطلاع على النسخة الأصلية اضغط هنا

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد