قد يبدو العنوان في جزء منه صالحاً لمقال علمي يتحدث عن التدخين وآثاره السلبية على الرئة والقلب والشرايين و"نومة الفراش"، أو ربما يخطر للبعض أنني بصدد إجراء عملية حسابية رياضية، لمعرفة عدد السجائر التي دخنتها خلال هذه الفترة، التي هي عمر علاقتي مع أول سيجارة، يضاف إليها 55 شهراً من التدخين خارج مناطق نفوذ البعث والأسد الابن!
واقع الأمر لست معنياً بهذا كله، وكل ما أريده – هنا – هو الإشارة الى أنني دخنتها كاملة – مع كل ما رافقها من ذكريات ولا (أروع..!) – في ظل حكم البعث وحافظ الأسد وابنه بشار، وأنني لم أدخن خلال هذه الفترة إلا عدداً محدوداً من الدخان الوطني، ليس لأن سيجارة الدخان الوطني تحتاج إلى علبة كبريت وطني رطب لإشعالها، فحسب، بل ولمعاونة حزب البعث وحافظ الأسد وابنه في حرق الاستعمار والامبريالية والرجعية دفعة واحدة!
عندما بدأت التدخين، في سبعينيات القرن الماضي، كان سعر "الباكيت" الأجنبي في "الكافيتريات" التي نرتادها أقل من ليرة سورية واحدة، لكنه يرتفع في فترات الأزمة، وذلك عندما ينخفض استيراد الدولة لتشجيع الدخان المحلي (الشرق والحمراء وبالميرا.. كل سيجارة بعشرة أعواد كبريت!)، أو عندما تقرر الدولة العتيدة إفساح المجال للسيد محمد مخلوف (شقيق زوجة حافظ الأسد وخال الرئيس الحالي ووالد رامي مسبع الكارات ..!!) المتعهد الأول لاستيراد الدخان الأجنبي الرسمي، تحت يافطة مؤسسة التبغ الحكومية التي ترأسها عقوداً من الزمن، وهو المهرب الذي أبدع في شراء الدخان وتسويقه، كي يكمل غلته اليومية حتى تصبح ملايين صافية دون كسور عشرية!
مع دخول محمد مخلوف على خط التهريب واحتكار بيعه، ازداد سوء تصنيع الدخان الوطني، وأصبح تدخين السيجارة الواحدة مليئاً بالمفاجآت، التي تبدأ برخاوتها والتقتير في كميتها، وقد لا تنتهي بمفرقعة ميكروسكوبية الحجم في داخلها، والقصد – بالطبع- إجبارنا لنتجه إلى الدخان المهرب، ما جعل الدخان المخلوفي الأجنبي المهرب سيداً مستفرداً بالسوق، وأصبح له عصاباته المختصة المتنوعة، وغلالها كلها تصب آخر النهار – بالطبع أيضاً – في جيب خال الرئيس المعتر، الذي توفي تاركاً ثروة قدّرها البعض بعشرات المليارات من العملات المختلفة.. "مابينحكى فيهن"..!! ؟؟.
إذا حدث أن أخطأ أحد وقام بالتعدي على هذا الاحتكار المخلوفي، كما فعل أهل مضايا وسرغايا – فكّ الله محنتهم – حين قرروا الاستعاضة عن خال الرئيس بالحمير والبغال، فدربوا حميرهم وبغالهم على الذهاب وحدها بعدولها فارغة الى لبنان، والعودة منه محملة بكل أنواع الدخان الأجنبي الأصلي.. إذا حدث ذلك نجد الخال لهم بالمرصاد مستفزاً "العزة الوطنية" لأبناء أخته الشطّا (باسل وبشار)، فيلبونه بتسيير حملات "تعفيش وطني" ينفذه حماة الوطن (..!!) جند الأسد، لبيوت ومحلات أهل مضايا وسرغايا، لا تبقي فيها "جعب" سيجارة واحدة، ولسان حالهم يقول:
– " فَتِحْ عينك.. كلو إلا إزعاج الخال أبو رامي ..!!"
المهم.. ولأن "المال يجر المال والقمل يجر الصيبان"، قام ورثة الخال المدلل برفع السعر رويداً رويداً الى أن وصل قبل مغادرتي سوريا الى 50 ليرة، ومع انتقال رئاسة نقابة المهربين الى نجله رامي صاحب المعجزات الاقتصادية وإخوته، وحسب نشرات أخبار الداخل اليوم، وصل سعر "الباكيت" الواحدة من الدخان الأجنبي الى نحو 1500 ليرة سورية.. ليرة تنطح ليرة!
هنا لا يفوتنا ذكر القدرة الإبداعية للنجل رامي، الذي تفتق ذهنه العبقري الى أن يقوم بتصنيع الدخان على ظهر السفن التي ترسو قبالة شواطئ الوطن، بدل استيراده، وفي هذه السفن التي يملكها، ينتج دخاناً يحمل أسماء كل العلامات التجارية العالمية المعروفة بدءاً من "مارلبورو" مروراً بـ"كنت" و"غولواز" و"جيتان" و"بول مول" و"ديفي د وف" وعشرات غيرها.. والشاطر يتجرأ ويحكي أو يحتج ولو همساً للحيطان التي لها آذان مشنفة على الدوام 24/24 ساعة.
شخصياً، والحق يقال، لم أدفع أكثر من 50 ليرة سورية طيلة الفترة التي دخنت فيها، حتى في ذروة هيمنة المخلوفية على أسعار حبيب القلب، عدا بعض المرات الاستثنائية التي لا تذكر، حيث اضطررت لدفع ثمن السيجارة الواحدة – ومثلي مئات الآلاف من السوريين – أضعافاً مضاعفة.
يا مرحومين البي، أقول وعمر السامعين يطول، إنني أجزم أنه لم يبق فرد منا – نحن عتاولة التدخين في سوريا – إلا ولبى دعوة هذا الفرع الأمني أو ذاك (بيوت خالاتنا!) إلى شرب فنجان قهوة، حسب الطلب، "سادة أو سكر زيادة"، ليس بجرم أننا مدخنون، بل – يمكن القول – إن غالبيتنا جاء الى هذه الآفة لتعينه وتصبره على الحال العام المزري، الذي وضع فيه الأسدان الشعب السوري، ووزعوهم بين مُوالٍ منبطح منفذ لإرادتهم "من تم ساكت"، وبين رافض لها!
وحتى لا نبالغ في الأمر، نوضح أن الرفض لا يعني أن تقود مظاهرة ضد البعث والأسدين، فهذه حكمها الموت المؤكد، ولم يجرؤ أحدنا على مجرد التفكير بها، لكن يكفي أن تكون على الحياد، ليكون لك موعد دوري لمراجعة أحد فروع الأجهزة الأمنية السبعة عشر.. ويقال إن الرقم أكثر بكثير.. لا لشيء إلا للاطمئنان عليك، وتجديد المعلومات في اضبارتك، فقد تكون أمك قد غيرت اسمها، أو يكون تاريخ ميلادك قد تغير، وما شابه ذلك من تبدلات قد تكون طرأت بين زيارتين لبيت خالتك!
في المراجعات الأمنية غالباً ما كانوا يسمحون لنا بالتدخين، وكنت اتقصد أن تكون العلبة شبه فارغة قبل وصولي، وبحجة انتهاء علبة الدخان، أدفع – ومثلي الآخرون – للمساعد الذي يستضيفنا في مكتبه، ورقة من أمهات الخمسمائة ليرة، المكناة بأم الطربوش، ليؤمن لي علبة دخان.. وحين تأتي العروسة، كنت – وبكل إباء وشهامة – أرفض استلام المبلغ المتبقي:
– له يا أبو حيدر..! عيب ولو هاي بيناتنا يا رجل.. اعتبرها حق علبة تلوين للمحروس ابنك.. طيبك سابق يا رجل وما في شي من واجبك ؟؟
بهذا الكرم الحاتمي أحقق هدفين: الأول، كسب كأس شاي "أتمزمز" بشربها، وعيوني ترقب عيون من معي التي تنقط حسداً وغيرة، والثاني أكون قد ضمنت أن موافقة السفر التي جئت للحصول عليها ستخرج قبل هؤلاء الذين معي (طقوا غيظاً!)، وأن المساعد أبوحيدر قد يخدمني ويتحدث لمعلمه بأنني رجل لا غبار على وطنيته، وأن ما ورد من وشايات في ملفي الأمني لا يعدو أن يكون تبلياً، ناهيك عن أنني سأضمن وضعاً فيه بعض الدلال في المراجعة القادمة، إن أسعدني الحظ وبقي أبوحيدر في مكانه!
أحياناً حين يكون الجو مدلهماً، والوضع العام ملخبطاً، يُصاب المساعد أبوحيدر بكريزة شرف، لا يمكن أن تشفيها "كروزات متلتلة" من الدخان أو ما يعادل ثمنها.. "يتحيون عالآخر"!
أما حين تكون زيارتك لبيت خالتك بقصد التحقيق فهنا "يولع" السوق وتلتهب الأسعار! فقد يصل سعر مجّة واحدة الى 100 ليرة، وتدخين سيجارة كاملة يفرغ جيبك، أما حين يبلغ بك الطمع تدخين سيجارة بين حفلة دواليب وأخرى، أو بين "لبطة" تطيح بأسنانك وثانية يطلع شررها من مناخيرك، فإنه يجب أن يكون وراءك بنك، أو تستغني عائلتك عن إرثها من أموال وأطيان!
في الحالتين: المراجعة والتحقيق.. هناك فصل واضح بين سعر السيجارة وبين إشعالها، فلكلٍ سعره المنفصل!
أخيراً.. لابد من التفريق في هذا المجال. إن المساعدين الذين يؤمنون لك السيجارة، سواء في مكاتبهم أو في الأقبية التي يشرفون عليها، يصنفون الى أنواع ودرجات، إذ تختلف طراوتهم وقسوتهم من فرع أمني الى فرع آخر، وأحياناً في الفرع الواحد، وبعضهم قنوع يرضى بالقليل، ويشكرك همساً، وبعضهم لا تشبع عينيه أموال الدنيا، وتبقى تكشيرة وجهه ظاهرة على الدوام حتى لو أفرغت جيوبك، وجيوب "اللي خلفوك"! وإن حدث وكان لدى بعضهم شيء من الحياء.. (قل بقايا الحياء وما أقله!)، فإنه يتحين الفرصة الملائمة ليهمس لك بالسر، وهو يؤشر إلى غرفة رئيس الفرع، ثم إلى جيبه، ثم إلى غرفة رئيس الفرع:
– صدقني يا أبوالشباب.. كلو للمعلم.. وما بيدخل هالجيبة من الجمل إلا اذنو.. ابن الحرام ما بيشبع وعينو ضيقة!
عمار مصارع
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.