يُولدُ، وهي في شدةِ لحظاتِ الألمِ؛ فتصرخُ وهو يبكي، هو لم يخترها أمًا له، ولكنها قررت أن تدفعَه، ليكابدَ الحياة، يكبُرُ الطفلُ باحثًا عن وصفةٍ سحريةٍ للفوز، يريدُ أن يفوزَ بالحبِّ والعلمِ، بالأمنِ والرفاه، بالقوةِ والشغفِ. هو يُدركُ أن القوةَ وحدها قسوةٌ فيريدُها محُوطةً بشغفٍ يمنعُه من الطغيانِ، ويريدُ أمنًا لا يصاحبُه استقرارُ القهرِ والفقرِ والجوعِ، وعلمًا ليس باردًا ببعدهِ عن قلوبٍ وارفةً ودًا وضحكًا يداعبُ الشفاه.
خريطةُ الفوزِ ووصفةُ الوصولِ ليست هينةً، ولكنها واضحةُ المعالمِ محددةُ المنارِ، فالوضوحُ في هذا العالمِ لا يرادفُه التيسيرُ، والتحديدُ لا يبسطُ التعقيدَ، والآن، مع وصفتِنا السحريةِ، وصفةٌ صيغتْ شهيةً، ودوّنتْ عليةً، وأزلفتْ نجيةً، هي السرُّ وما فوقَها يَسُرُّ، وما تحتَها يُقَرُّ، وما دونَها يُتركُ، وصفتُنا هي قلبٌ بطوليٌ وقّادٌ، وعقلٌ عاقلٌ فكّارٌ، وجسدٌ مشتبكٌ مُلتحمٌ.
قلبٌ تلامسَ بظلالِ حبِّهِ ومن أحبَّه، فقوةُ الجبارِ طاقةٌ نستغيثُ بها لمنحِ القبولَ، نعمْ هو سبحانهُ مالكُ المضغةِ في كلِ نفسٍ، بينَ إصبعيه يُقلّبُها كيفَ شاءَ، فالثباتُ وقبلَه الهدايةِ هما الطريقُ، هدايةٌ أُحِيطت بعِرفانٍ وعلمٍ {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، علمٌ ينتشلُ غرقى اللهوِ والعبثِ، نورٌ يُقذفُ في القلبِ فيُضيءُ السحابَ، فلا قُرْبَ ولا وُصُولَ، دونَ قلبٍ سليمٍ، قلبٌ بطولتُه فداءٌ، وعزمُهُ عزمُ مجدٌ، قلبٌ رؤوفٌ فيرحمُ، ومنتصرٌ فيحسمُ ولا ينهارُ أمامَ النوازلِ والمُلماتِ؛ فالقلبُ في وصفتِنا ليسَ قلبُ وجدٍ، بلْ هو وجدٌ وكرامةٌ وطاقةُ رفعةٍ وسموٍ، فأنتمُ الأعلونَ شرطُها صدقُ التخليةِ، تخليةٌ من شوائبٍ عششَتْ في ماءٍ دافقٍ توارثناه، من سوطِ عبدٍ كلبٍ ألفناه، من أقانيمِ الناسِ ومقاييسِهم المتوثنة، من إحباطاتِ الواقعِ وفتنِه المتمكنةِ، من الشركِ والكفرِ والفسوقِ والعصيانِ.
والقلوبُ إذا ما خليتها وما حليتها سكنَ الروحَ فراغُ الوهمِ ودجلُ التطهرِ، فلا طُهرَ دون تحلية، وتحليةُ القلوبِ زينتُها وعافيتُها، فما أعزهُ حالَ قلبٍ ممتليءٍ بمناجاةٍ وتبتلٍ ودعاءٍ، بعطيةِ سرٍ وصلاةٍ ورجاءٍ، بخوفٍ وحبٍ، بطيِّبِ الكلامِ وإطعامِ الطعامِ واستغفارٍ بالأسحارِ، فالقلبُ المُحلى بنعمِ الحركةِ والبذلِ واستباقِ الخيراتِ والجمالِ هو مقصودُ وصفتِنا.
لم نبدأْ بالحكمِ العادلِ والأميرِ الماكرِ والملكِ المجنونِ، فعقلٌ بعدلٍ ومكرٍ وجنونٍ هو مُنتهى سرِنا، وها قد أفصحنا وبُحنا بعدَ القلبِ بالعقلِ، فأمسكهُ ولا تتركهُ أبدًا، حلّق بهِ دونَ قيدٍ أو شرطٍ، اجعلهُ إمامًا وهاديًا، فلا تنبئهُ بعجزك فى عالمِ الموجوداتِ، ولا تلهه بالحماسِ وتغرقهُ في الوجدانِ، إن لعقلِكَ عليكَ حقًا، حقهُ أن تبدأَ بهِ وتنتهيَ، وأن تسائلَهُ ويُسائلَك، وأن يُخيرَك ويُسيرَك.
وبعدَ أن فلتَ العقالُ فطارَ، وتكشّفت الأسرارُ، وامتلكت الحريةَ لتختارَ، ها هو يبحثُ عن مدرجٍ للهبوطِ، ومسلكُه زمامُه وفيهِ تمامُه ورجحانُه، وزمامُ العقلِ كسرٍ معروفٍ ودواءٍ موصوفٍ، هو (محكمُ التنزيلِ) أي ما يُرتّلُ ترتيلًا، وجوامعُ كلمِ الجميلِ عليهِ أفضلَ الصلاةِ وأتمَ التسليمِ، فعقلٌ حرٌ سليمٌ اختارَ عن معرفةٍ واعيةٍ الإيمانَ بالكبيرِ المتعالِ، وكتابِه الكريمِ ومن على خلقٍ عظيمٍ، قد امتلكَ مرجعيةً ومنهجيةً وأسلوبًا وطريقًا ومعيارًا وسبيلًا، ولا فائدةٌ لعقلٍ ملكَ الدليلَ كنصٍ مقروءٍ؛ ولم يسلك الطريقَ كمنهجٍ معقولٍ عن نورٍ وبصيرةٍ.
والآن ما فائدةُ قلبٍ سليمٍ، بروحٍ بطوليةٍ، وعقلٍ راشدٍ، بوعيٍ سديدٍ، دونَ جسدٍ يحتشدُ فيزرعَ ويضربُ فيوجِعَ ويبني فيُشيّدَ ويحطّمُ فيُهشّمَ، فإن جسدًا ينفذُ إلى قلبِ عبدٍ كلبٍ، برصاصةٍ من كاتمِ صوتٍ، جميلٍ صداه، أنعمْ بهِ وأكرمْ، فقد أراحَ ملايينَ البشرِ من عبدٍ ذليلٍ للعصابةِ الأمِ، عصابةٌ ما فتئت تقتلُنا وتسجنُنا وتشردُنا وترمينا كجثثٍ على شطآنِ أمةٍ ممتدةٍ عبرَ بلادِ الدنيا، طوالَ عقودٍ وقرونٍ مضت.
ونفسُ ذاتِ الجسدِ الذي أصابته الأنفةُ، من الغربِ الأزرقِ، والشرقِ الأحمرِ، وتنكيلِهم وعسفِهم وإجرامِهم، لا يحقَ له بحالٍ أن يتوارى، أو أن يُنكرَ السبقَ والتقدمَ والتفوقَ لغيرهِ من شعوبٍ وبلادٍ، فالواجبُ أن نواجهَ الظلمَ الذي يُحيطُ أممَ العالمِ أجمعِ؛ بامتلاكِ الأدواتِ والتكتيكاتِ والخططِ والاستراتيجياتِ والتكنولوجيا والعلومِ والمعارفِ والمهاراتِ، فالعلمُ بالواقعِ والتمكنُ منه ليسَ بالخطبِ العصماءِ أو التظاهراتِ الصماءِ، إننا قدرُ الله النافذُ في هذا العالمِ، ووعدهُ سبحانهُ لا يتبدلْ؛ فالأخذُ بالأسبابِ ركنٌ وحتمٌ لازمٌ لتمكينِ الصوابَ والحقَ لا لتمكينِ الأشخاصَ.
ها هي وصفتُنا، وصفةٌ قالت لكَ امتلك نفسكَ وآمن بها، فحريةُ عقلكَ أساسٌ، ثم التأكدُ من سلامةِ قدرتِك في الحكمِ على الأشياءِ، فالانحيازُ للحقِ والصوابِ، فاختيارُ الأفضلِ والأحسنِ والأرشدِ، هذا هو ركنُ الوصفةِ الأولِ (العقلُ السليمُ الواعي البصيرُ)؛ فلا انحرافَ ولا ضلالَ أو شططَ، أما الركنُ الثاني فهو الروحُ المتوثبةُ والفؤادُ الرقيقُ صاحبَ الإحساسِ ودقةِ الشعورِ، والطاقةِ الباعثةِ والحماسةِ الهائلةِ؛ لنجد أنفسَنا أمامَ (قلبٍ بطوليٍ بروحٍ فدائيةٍ) فلا كسلَ ولا خنوعَ ولا جمودَ أو قسوةَ، وركنُ الوصفةِ الثالثِ الاشتباكُ بالواقعِ عن فهمٍ وإدراكٍ؛ من خلالَ علومِه الطبيعيةِ والإنسانيةِ، والخبراتِ الحياتيةِ، والتجاربِ البشريةِ، والمآلاتِ التاريخيةِ؛ فالثقافةُ والخبرةُ والإحاطةُ وفقهُ الحاضرِ، مع حركةٍ مدويةٍ هي العاصمُ من الانغلاقِ والانسحاقِ فيكن جسدُنا (جسدًا محتشدًا متحركًا مقدامًا مُشتبكًا مقاتلًا) مُلتصقًا بحركةِ الناسِ.
وها أنت يا إمامَ الدنيا يا شمسَ الأنامِ – نعمْ أنت – ففي الإسلامِ (صُلبُ وصفتِنا) تجدُ الإنسانَ يدعو ربَّه ويسألُه ويرجوه ويتضرعُ إليه لا بأن يجعلَه مسلمًا أو عابدًا أو مؤمنًا أو صالحًا أو مُصلحًا بل إمامًا للمتقين، (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)، هذه الأيةُ تدلُك على أن الأهدافَ الهابطةَ ساقطةَ الهمةِ ليست غايةَ الرجاءِ ومُنتهى المنى، وأما الإمامةُ ففضلُ اللهِ يؤتيه من يشاء، سواءَ كان مُسلمًا فيكرمُه ويتممُ عليه نعمتَه، أو غير مُسلمٍ فيُحسنُ إليه بأن يهديَه إلى الخيرِ ثم يجعلَه إمامًا لمن سبقه إسلامًا.
والأن ها أنت يا أنا، قد امتلكت الوصفةَ وتمكنت من مقاديرها، ومقاديرُك بيدهِ وماضٍ فيك حكمُه؛ فعرفتَ فالزمْ.
سنحشدُ الوعيَ والروحَ سنحشدُ الجسدَ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.