في 8 أبريل/نيسان، استدعى وزير الخارجية الإيطالي، باولو جينتيلوني، سفيره لدى مصر، وأتى ذلك القرار في أعقاب اجتماع انعقد في روما مع وفد مصري بشأن التحقيق في مقتل جوليو ريجيني، الطالب الإيطالي الذي عُثِرَ على جثته التي تعرَضت للتعذيب في القاهرة في 3 فبراير/شباط.
كانت الحروق والجروح على جسده، وعندما شاهدت والدته جثمانه قالت إن "كل شر العالم" كان على وجهه، ويُشتبه بشدة في أن أجهزة الأمن المصرية هي من قامت بتعذيبه وقتله، فخلال عام 2015 فقط تم توثيق 625 حالة تعذيب، و1411 حالة اختفاء قسري في البلاد.
فما تبعات التراجع في العلاقات الدبلوماسية المصرية الإيطالية على استقرار الرئيس السيسي؟
تجيب صحيفة "هافينغتون بوست" في نسختها الأميركية، 14 أبريل/نيسان 2016، قائلة إنه في الواقع، ومباشرة بعد التعرف على جثة ريجيني، بدت الحكومة الإيطالية مستعدة للتعامل مع هذه المسألة بشكل عملي. فحالة جوليو ظهرت على نحو مُحرج في خضم الكشف الأخير لحقل الغاز البحري العملاق "زهر"، الذي اكتشفته شركة الغاز الإيطالية "إيني" خلال العام الماضي، وعلى إثره يُتوقع أن تزداد العلاقات التجارية بين مصر وإيطاليا بشكل كبير، ولكن في خضم الحشد الاستثنائي من قبل الناشطين والباحثين الإيطاليين والدوليين فقد توقعت روما، على أقل تقدير، اعتراف أجهزة الأمن المصرية بتورطها في الحادث.
وراء هذه الاعتبارات تكمن المعضلة الدائمة للقوى الغربية التي تتعامل مع الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، فيؤخذ في الحُسبان أنه بغض النظر عن مدى الوحشية التي يعتدون بها على السكان، وعن الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، هناك حاجة لتعزيز العلاقات مع الحكام المستبدين طالما أنها تضمن أمناً واستقرارًا (غربياً)، وتُحبط المجموعات الإرهابية والانتفاضات الشعبية، وتوقف تدفق المهاجرين إلى الشواطئ الغربية.
تجلى هذا الرأي في المناقشة التي أجراها البرلمان الإيطالي حول حالة ريجيني، عندما غادر نائبا الحزبين اليمينيين، ليجا نورد وفراتيلي ديتاليا، الجلسة المُنعقدة آنذاك قائلين: "مصر حليفتنا".
وفي الواقع، الزعماء العرب المستبدون مسؤولون الى حد كبير عن إنتاج الظروف سالفة الذكر، وثمة ثلاثة عوامل تؤدي إلى تفاقمها، فسوء الإدارة الاقتصادية يخلق ويرسخ البطالة والفقر، ويُدمر القمع الوحشي المعارضة السياسية، فضلاً عن ذلك، وقد أدت تلك التطورات إلى تفشّي حراك الناس من الفضاء المدني إلى الفضاء الديني (الذي قد يكون مُسيّساً أو عنيفاً) أو هجرتهم إلى بلد أجنبي.
السيسي ليس استثناءً في غروره
الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ليس استثناءً في غروره والاعتقاد بأن الغرب يعتبره ركيزة لا غنى عنها للاستقرار، فيبدو السيسي على ثقة مُفرطة بأن قضية ريجيني "لن تؤثر على العلاقات الإيطالية المصرية"، على حد تعبيره.
وقد وجه اللوم لروما على "تسييس القضية" بعد أن تم استدعاء السفير الإيطالي من القاهرة.
والأمر الذي يتجاهله السيسي بشكل كبير هو أن القضية سياسية في جوهرها منذ 3 فبراير/شباط، (اختفى جوليو يوم 25 يناير/كانون الثاني – أي في ذكرى الثورة المصرية).
أكاذيب لا يمكن إخفاؤها
وحتى في عصر النفعية السياسية والمزيد من الجغرافيا السياسية المعقدة، هناك أكاذيب لا يمكن إخفاؤها ببساطة. على مدى الأسابيع القليلة الماضية، أطلق الجانب المصري عدة "حقائق" مختلفة ومتناقضة حول مقتل ريجيني؛ فقالوا أولاً إنه مات في حادث سيارة وتم العثور على جثته على جانب الطريق السريع الذي يربط القاهرة بالإسكندرية، ولاحقاً أرجعوا مقتله إلى علاقة غرامية، ثم فيما بعد زعموا أنه تعرّض للتعذيب والقتل على يد "عصابة متخصصة في خطف الأجانب".
وكانت تلك رواية سخيفة بوضوح شديد، وادعت أجهزة الأمن المصرية أن 5 من الخاطفين المشتبه بهم قد لقوا مصرعهم إثر تبادل لإطلاق النار مع الشرطة، وهو ما يغلق القضية بطريقة مُريحة للمُحققين، ويحرم الخاطفين المزعومين من أي فرصة للدفاع عن أنفسهم. فالدولة المصرية تحرم عائلات أُخرى من ذويها، دون سبب أو تفسير موثوق.
وأخيراً وليس آخراً، اكتشفت السلطات الإيطالية أن مصر تجسست على وفدها من المُحققين خلال الأسابيع الثمانية التي قضوها في القاهرة في محاولة لتسليط الضوء على القتل المشين لريجيني. وكانت هناك محاولات متعددة لعرقلة عملهم.
النظام يُحرج حتى المتساهلين مع وحشيته
وبافتعال نسخ سريالية ومثيرة للسخرية من "الحقيقة"، أحرج النظام المصري حتى أولئك الذين عادة ما يتساهلون مع وحشيته الصارخة، مثل الحكومة الإيطالية الحالية.
فقد كان رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي واحداً من أشد المُتحمسين للرئيس السيسي في كتابه "الحرب ضد الإرهاب"، متجاهلاً حقيقة أن استراتيجيته لمكافحة الإرهاب تعادل في الغالب القمع الوحشي لمعارضي نظامه الحاليين والمُتخيَّلين، بمن في ذلك النشطاء الليبراليون واليساريون.
وقد أخطأ النظام المصري تقدير إصرار الإيطاليين والأوروبيين بشكل كبير. وبخاصة في إيطاليا والمملكة المتحدة، حيث وقّع أكثر من 10 آلاف مواطن على عريضة للمطالبة بتحقيقات أكثر شمولاً بشأن اغتيال جوليو، حتى أن إيطاليا قد تُطالب الآن بفرض عقوبات من الاتحاد الأوروبي ضد مصر إن لم يخرج السيسي برد ذي مصداقية.
هل يُجدي تحويل المشهد المسرحي إلى السعودية؟
وتماشياً مع الحاجة إلى تقديم صورة من القوة إلى مُنتقديه المحليين والدوليين، كان رد فعل السيسي هو تحويل الانتباه إلى حليفته الراعية الأكبر، وهي المملكة العربية السعودية. وفي لقاء رسمي مع الملك سلمان، أعلن الرئيس المصري بناء جسر فوق البحر الأحمر يربط البلدين. وفي خطوة مسرحية، قدم السيسي اثنتين من جزر البحر الأحمر للمملكة العربية السعودية باعتبار ذلك علامة على "امتنانه"، وكثّف الدعاية بشأن المشاريع والاستثمارات المصرية السعودية الجديدة.
كان القصد من هذا العرض هو إثبات أن مصر مستعدة لتعويض الخسائر المحتملة للعقود الإيطالية – فإيطاليا تعد الشريك التجاري الثالث في مصر، بعد الولايات المتحدة وألمانيا.
ولكن تلك الخطوة أثارت غضب الشارع المصري. وعلاوة على ذلك، أدى الانخفاض في أسعار النفط والعجز المالي الذي تواجهه السعودية ودول الخليج الأخرى على الصعيد المحلي إلى خفض التمويل المُقدّم لمصر من قبل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وهي الدول الحليفة الرئيسية للسيسي.
وخلف الصورة الوردية التي يحاول الجنرال السيسي عرضها حول استقرار مصر ونموها الاقتصادي، تمر البلاد حالياً بحالة من الانهيار المالي والأمني الهائل، كما أن الخصومات الداخلية داخل النظام بدأت تبرز على السطح بما يهدد الاستقرار.
ما التالي؟
وفي الواقع، قد يكون لدى السيسي من الأعداء داخل مؤسسته أكثر مما لديه من خارج البلد الذي يحكمه. وفضلاً عن ذلك يُرجِّح مراقبون مصريون ودوليون أنه قد تحدث ثورة أُخرى كرد فعل على موجة لا تطاق من القمع واختلال نظام الدولة.
وفي ظلال المشهد، ربما يجد حتى الحلفاء الخارجيون تلك السياسة التقليدية القائمة على "دعم للحكام المستبدين في مقابل الأمن" غير كافية في التعامل مع المشاكل الإقليمية الحالية. فالمعلقون الإعلاميون وأعضاء مجلس الشيوخ الأميركي يتساءلون ما إذا كان من الجدير أن تنفق واشنطن 1.3 مليار دولار سنوياً من أموال دافعي الضرائب في المساعدات العسكرية لمصر، دون الحصول على الكثير في المقابل، ولا حتى تحسناً طفيفاً فيما يتعلق بحقوق الإنسان.
وفي حين يبدو من غير المحتمل أن تقلص الولايات المتحدة علاقتها مع مصر في المستقبل القريب، إلا أن القاهرة قد تشهد في نهاية المطاف ضغطاً متزايداً بسبب سياسة فك ارتباط الولايات المتحدة بالشرق الأوسط.
وهم الصديق الدكتاتور
حتى مُحللو فكر الواقعية السياسية في الغرب بدأوا إدراك أن الفكرة الضيقة القائلة إن مُصادقة الدكتاتورية يمكن أن توفر الاستقرار تُعد وهماً. وهذا الافتراض لا يزال منتشراً بين قادة العالم، فديفيد كاميرون – على سبيل المثال – شرح مؤخراً أنه على الرغم من الفقر الذي لا يمكن إنكاره في سجلات حقوق الإنسان السعودية، إلا أن التحالف مع السعودية يساعد في الحفاظ على أمن المواطنين في المملكة المتحدة.
وما لم يقله كاميرون هو أن ذلك يحدث على حساب أمن المواطنين السعوديين، وهو ما قد يحولها في نهاية المطاف إلى بؤرة لعدم الاستقرار في منطقة الخليج.
وبالمناسبة، بينما يتمزق الشرق الأوسط بفعل الحروب الأهلية والاضطرابات السياسية، يدفع المواطنون الغربيون أيضاً ثمن سياسة طويلة الأمد تتبنى دعم القوى الفاسدة غير الليبرالية.
أصدقاء الدكتاتور.. يخسرون؟
وبالتزامن تواجه أوروبا موجة غير متوقعة من الإرهاب شنّها مُتطرفون مُسلمون أوروبيون أسسوا جسراً بين أوروبا والشرق الأوسط، مستفيدين من حالة الاستياء التاريخي حيال الهيمنة الغربية، والاستغلال والدمار اللاحقان بالعالم الإسلامي. وسكان الشرق الأوسط الكبير المُحبطون والمُعرضون للتنكيل من قبل أنظمتهم، فضلاً عن الغزو الخارجي، طالما اعتبروا الحكومات الغربية غطاءً شرعياً لحكامهم غير الشرعيين.
في خضم التوترات الاجتماعية والإيديولوجية الحالية، من الممكن بسهولة استغلال ذلك الاستياء الموغل في العمق من قبل الجماعات الإرهابية، لتمديد قواعدها بين المسلمين المحبطين الذين يعيشون في دول تمارس الإرهاب، خاصة مع إفلات النخبة من العقاب، مثلما هو الحال في مصر.
حراك الحلفاء
ومن المفارقات أن جثة ريجيني التي تعرضت للتعذيب الوحشي أجبرت العالم كله على الاعتراف بالواقع اليومي بالسجون المصرية وإفلات النظام من العقاب.
ويُعد استدعاء السفير الإيطالي إلى روما بداية جيدة، لكن على إيطاليا وحكومات دول الاتحاد الأوروبي الأخرى وضع المزيد من الضغوط على مصر إثر الحالات المتكررة من القتل خارج نطاق القضاء، والاختفاء القسري، والتعذيب.
وهذا سيكون رسالة رئيسية للشعب المصري بأن الحكومات الغربية لم تعد مستعدة لبيع حياتهم من أجل العقود التجارية أو الاتفاقيات الأمنية ذات المدى القصير.
وهذا ليس الأمر الصحيح الذي ينبغي القيام به فحسب، بل يجسّد أيضاً الواقعية السياسية الحقيقية، فلم يعد بإمكاننا تحمل الاستمرار في تمكين الحكام الدكتاتوريين الذين يُؤدي قمعهم وتعسّفهم وعدم كفاءتهم وإساءتهم لاستعمال السلطة إلى الحروب والإرهاب وأزمة اللاجئين التي يبدو العالم بأسره غير جاهز للتعامل معها.
هذه التدوينة مترجمة عن النسخة الأمريكة من "هافينغتون بوست" للاطلاع على النسخة الأصلية اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.