يُحكى أنَّ | الطائرة التي لا تهوى بك .. تقويك

يغادر المرء نفسه وأهله والعيال يحمل متاعه يعبر البحار والجبال تفر من بين يديه السنون والأيام يبحث عن الذهب فإذا ما العمر ذهب أدرك ما غابت عنه الأفهام الذهب هو الإنسان إذا ما ظل فيه الإنسان

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/15 الساعة 09:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/15 الساعة 09:06 بتوقيت غرينتش

سألتها: كيف الوصول إليك، أجابت: عليك أن تتدبر أمرك وحدك، لم أنجح في العثور على أي شخص هنا يتحدث الإنجليزية يمكن أن يكون برفقتك ويدلك على الطريق، قلت لها لا بأس بالتيه في بلاد الثورة.

كانت بلغتها الإسبانية وبخبرتها الصحفية، مايسترو فريق العمل المكون من مجموعتين، واحدة لبرنامج نقطة ساخنة، والآخرى لبرنامج يحكى أن، فيما كنت أنا أتنقل بين المجموعتين، وعليّ هذه المرة أن أغادر العاصمة الفنزويلية كاراكس لألحق بالمجموعة الأخرى وضمنها "ديمة الخطيب" في أقصى جنوب شرق البلاد، ذلك كان نهايات عام ألفين واثنين.

في الموعد المحدد توجهت وحدي إلى مطار العاصمة، أنهيت الإجراءات المعتادة وركبت الطائرة، وعندما وصلت إلى مطار مدينة "بويرتو أورداس" كان في انتظاري سائق لا يجيد إلا لغة أهل البلاد الإسبانية ويحمل لوحة كتب عليها اسمي، لقد رتبت ديمة كل شيء بدقة متناهية، كنا مساء، أقلني من المطار إلى الفندق، عند الاستقبال أكتفى الموظف هناك بإيماءة من رأسه للتعبير عن ترحيبه ما دامت اللغة قد خذلتنا.

توجهت إلى الغرفة، كان صوت المكيف مزعجاً بشكل لا يطاق، وبرودة الغرفة شديدة بدرجة لا تحتمل، ولا يمكن التحكم به من الغرفة، عدت إلى الاستقبال أحاول شرح الموقف، لكن مرة أخرى لا لغة مشتركة، وتذكرت البسطاء في بلدي، لو زار سائح غربي أعماق ريف مصر وتحدث بالإنجليزية، فبوسعه أن يتدبر أمره، بالإشارات وبعض الكلمات الصغيرة والحركات يمكن التفاهم، المصري قدير في ذلك وإن لم يكن لديه أي خبرة باللغة، أما هنا فعليك أن تنطق الكلمة بلغة أهل البلاد وبنفس طريقة نطقهم حتى ولو كانت كلمة معروفة مثل الكوكاكولا أو البيتزا وإلا ما فهمك أحد.

أتصلت بديمة، شرحتُ لها الموقف، ثم توجهت إلى الموظف وأعطيته الهاتف، تواصل معها، ثم أعطاني الهاتف وشرحتْ لي، ثم أعطيته الهاتف وشرحتُ له، وهكذا حتى أُنجزت المهمة المستحيلة، وهي إغلاق المكيف، تبًّا لهذه التفاصيل التي تستنفذ وقتك.

في الصباح أقلني نفس السائق إلى مطار المدينة الذي استقبلني فيه ليلة أمس، وفي المدخل وعن بعد وجدت طائرة صغيرة، أشار إليها ضاحكاً أو ربما ساخراً، أتممت الإجراءات وجلست، إلى أن أتى رجل، يشبه سائقي الشاحنات في مصر، ليصطحبني إلى الطائرة.

صباح الخير.
صباح النور.
حضرتك مسافر إلى "سانتا إيلينا دي وايرين"؟
أيوه.
طيب أتفضل معايا نروح للطيارة.
دي الطيارة؟!
أيوه.
بس دي صغيرة قوي!
ولا يهمك بنسافر فيها كتير.
دي مفيش فيها إلا كرسيين اتنين، أنت وأنا!
يا عم اطمن، الأعمار بيد الله.
معلش بس الكرسي مش ثابت، وبعدين طب فين الحزام؟
متقلقش قوي كده، كله بيمشي بالبركة، لكن أنت رايح هناك تعمل إيه؟
بعمل فيلم وثائقي عن السكان الأصليين.
ياه أنتم العرب مهتمين بالسكان الأصليين في فنزويلا وناسينهم في بلادكم!

لو جرى الحديث بهذه اللغة، ما خفق قلبي وما اضطرب، يقولون إن المرء عدو ما يجهل، لم نتبادل ولو كلمة واحدة، سرت وراءه، ثم ركبت، ثم فزعت، الطائرة من الداخل، تُذَكِّرُكَ بالحافلات المهترئة في قرى مصر، وبعد أن أصبحنا في كبد السماء، أي أقرب للصعود إلى البارئ، أشرت إليه أن الباب الذي بجانبي غير محكم الإغلاق، ففعل فعلة السائقين، أمسك مقود الطائرة بيد وبالأخرى سحب الباب سحبة قوية.

من عل أرى أننا غادرنا المدينة وليس تحتنا إلا مجموعة من الجبال تكسوها بعض الأشجار، وطائرتنا المعجزة يخيل إليّ أنها تكاد تلامس هذه الأشجار، إذاً أنا وهذا الغريب وحدنا في السماء ولا لغة مشتركة غير ابتسامات بلهاء نتبادلها، كنت مجمداً على كرسي شبه هزاز، وكأني لو تحركت لاهتزَّت الطائرة وسقطتْ، بعد قليل بدأت أهدأ قليلاً، وأطمئن نسبيًّا، لكن ماذا لو هذا الرجل الآن ولسبب ما فقد وعيه، ماذا لو هناك طائرة أخرى في الاتجاه المعاكس، خصوصاً وأنني لم ألحظ على الرجل أعراض التواصل مع برج مراقبة أو ما شابه!

أردت أن أطمئن نفسي، ذَكَّرْتُها بتلك الطائرة الصغيرة التابعة لحلف شمال الأطلسي التي ركبتها من العاصمة الكرواتية زغرب، وكانت أنيقة للغاية بركابها العشر، ربما كان ذلك عام ألف وتسعمائة وخمسة وتسعين، ما إنْ صعدت الطائرة إلى السماء، حتى أبلغنا ربانها أننا سنهبط سراييفو بعد ثلث ساعة، مر أكثر من ساعة ولم نهبط، لقد باتت الطائرة فوق العاصمة البوسنوية، لكنها تهتز بشدة مخيفة ولا تستطيع الهبوط، كنا نتأرجح يمنة ويسرة، ثم نقع في مطبات هوائية فتصطدم رؤوسنا بسقف الطائرة وقد ألجمنا الفزع جميعاً، ننظر إلى بعض ولا نستطيع الكلام، باب قمرة الطائرة كان مفتوحاً، وبدا القائد هادئاً وهو يهاتف برج المراقبة وسط طقس سيئ للغاية، وكانت الحرب قد انتهت وقد تملكني شعور أنني سأموت في سراييفو بعد أن تنتهي حربها، لكن الأمر مر بسلام.

واستدعيت من ذاكرتي أيضاً تلك الطائرة الروسية الصغيرة المتهالكة التي أقلتنا في رحلة داخلية في الكونغو خلال حربها الأهلية عام ألف وتسعمائة وسبعة وتسعين، كان ربانها الروسي يرتدي شورط وشبشب، ويقف أمامها ونحن نركب، سألته بما معناه (حتوصلنا دي؟!) فرد مازحاً: لستُ متأكداً، فوقع المزاح موقع الجد في قلبي.

أو تلك الطائرة السودانية الضخمة التي أقلتنا من الخرطوم إلى الجنوب، ضمت فريقنا وفريق الطائرة والبضائع التي جلسنا فوقها، عندما بدأنا في الهبوط بعد رحلة مريرة لاحظت أننا ندور في دائرة، سألت فأجابوني أن المدرج صعب جدًّا وأحياناً تصطدم الطائرة بالأرض عند الهبوط، وأن الطيار يبذل أقصى جهده للهبوط آمنين، ونصحني أحدهم أن أنظر من نافذة الطائرة إلى هناك، حيث طائرتان محطمتان على المدرج، لقد مر ذلك كله وما زلتُ حيًّا، فلا بأس هذه المرة.

بعد حوالي الساعة بدأت الطائرة في الهبوط، رغم أني لم ألحظ أي وجود عمراني، وعرفت لاحقاً أن البلدة اسمها "كانايما"، لامست الطائرة الأرض فتنفست الصعداء، مجموعة من المنازل المتناثرة، ومجموعة من الطائرات الصغيرة كطائرتي، والسائقون -أقصد الطياريين- يجلسون في مقهى متواضع، مشهد عجيب، وبعد قليل صعدنا مرة أخرى لنهبط بعد حوالي ساعة في البلدة الهدف.

يغادر المرء نفسه وأهله والعيال
يحمل متاعه
يعبر البحار والجبال
تفر من بين يديه السنون والأيام
يبحث عن الذهب
فإذا ما العمر ذهب
أدرك ما غابت عنه الأفهام
الذهب هو الإنسان
إذا ما ظل فيه الإنسان

بهذا المقطع أنهيت حكايتي عن "الدواردو"، واستعددنا للرحيل، أقلتنا سيارة إلى مهبط الطائرات، حظي أفضل حالاً هذه المرة، الطائرة أكبر مرتين من التي أتت بي، والأفضل من ذلك أنني لست وحدي، وقديماً قالوا الموت مع الجماعة رحمة، امتقع وجه ديمة بعد أن صعدت بنا الطائرة، وعبثاً حاولنا أن نستفسر منها لماذا لم يهبط الطيار بعد ساعة كما كان مخططاً، كنا نطلب منها أن تترجم سؤالنا، لكنها كانت تحملق في المجهول، ونحن أكثر رعباً منها، إلى أن قاربنا على الوصول فشرحت لنا بعد أن تبادلت الحديث مع الطيار، وبعد أن لعنت اللحظة التي قررت فيها أن تأتي معي إلى فنزويلا، أن الطائرة كان لها من الوقود ما يحملها إلى غايتها دون الحاجة للتوقف للتزود به.

خرجنا من طائرتنا الصغيرة إلى طائرة عادية مع عموم الركاب، عائدين إلى كاراكس، طائرة كبرى ضخمة، كنا نضحك وهي الأخرى تهتز قليلاً، فالحكمة تقول لا بأس بالفزع الأصغر ما دمت قد مررت بالفزع الأكبر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد