عثرنا أخيراً على طفلتين مناسبتين، أخبرتني زميلتي وكأنها تزف لي بشرى سارة، غداً في الصباح ستكونان جاهزتين، فرك "زهير" يديه، إذن نحن على موعد مع وجبة تصوير معتبرة، اكتفى زميله "أحمد" برسم ابتسامة رضا على شفتيه، هو الذي لا ينتظر أوامر للتصوير، إنه متيم بالمكان، ينزل في أوقات الفراغ ليصور كل ما يمر به.
المدن مثل البشر تماماً، تتبدل عليها الأزمنة، يعلو شأنها أحياناً ويخبو أحياناً، يقصدها الناس مرات، ويهربون منها أخرى، وصديقتنا كانت تُعَدُّ عروس البحر الأدرياتيكي، بعد أن احتلت مكانها في جنوب غرب ألبانيا، كثاني أكبر ميناء بعد دوريس.
عندما كنت أجمع المعلومات عن "فلورا"، قيل لي إنها ولدت في القرن السادس قبل الميلاد، وأنها اشتهرت بالخمر والزيتون والملح، تناوب عليها المستعمرون، حتى رضخت للعثمانيين عام ألف وأربعمائة وسبعة عشر ميلادية، ولاحقاً كانت أول عاصمة لألبانيا المستقلة.
عُرف عنها الشقاوة والتمرد، فقلتُ في حقها إن أيامها ولياليها كانت دوماً مترعة بالعشق وبالثورة، تتفرس في ملامحها فتلحظ بسهولة وأنت في عام ألفين واثنين أنها تحمل أَثَرَ عِزٍّ قد زال، لكنها بقيت شامخة.
كنت أقول لزملائي، تخيلوا أن هذا البلد كان يذيق المحتل كل أنواع المرارة ليدفعه لمغادرة أراضيه، وها هو اليوم يدفع بنحو خمسة عشر بالمائة من سكانه ليركبوا البحر في مغامرة تحفها الأخطار من كل جانب حتى يصلوا إلى أبواب من كان عدوهم، يتسولون عملاً وأوراقاً وأختاماً رسمية.
ثمة صراع دائم لدى صانع الفيلم الوثائقي، بين الرغبة في إجادة العمل، وبين التقيد بالميزانية المرصودة، ورغم تلك الميزانية المرصودة فإني قررت البحث عن أحد المهربين الذين يرتكبون هذه المهمة، نقل الناس من هنا إلى الضفة الأخرى، في مراكب مهترئة، وبعيداً عن عيون الشرطة، وحراس الحدود.
نجحنا في التوصل إلى أحدهم، لكنه كما كان متوقعاً طلب مبلغاً كبيراً لقاء السماح لنا فقط بتصوير لحظة انطلاق المركب حاملة الفائزين إذا وصلوا، الموتى إذا غرقوا، وبقينا لأجل هذه اللحظة عدة أيام في انتظار إبلاغنا بالموعد، ولأن المدينة صغيرة، فقد شاع خبرنا، وجاءنا تحذير من الشرطة المحلية، وأنذرونا بأننا بذلك نرتكب مخالفة، وهددونا بأن رصاصهم الذي يطلق على المهربين قد يصيبنا.
في الحقيقة لم أكن متأكداً من ذلك، فالدولة كانت حينها تترنح، وسنوات الحكم الشيوعي الطويلة أفسدت الضمائر والنفوس، والأمر الذي يعرفه كل السكان أن هناك تواطؤاً بين مافيا التهريب والشرطة، ورغم ذلك بتنا في تردد شديد بين أن نذهب إلى هناك في الثالثة صباحاً كما أُبلغنا لنسجل اللحظة، أو أن نبقى في مأمن بفنادقنا، وانتابتنا مشاعر مختلطة بين الارتياح والحزن حين أبلغنا الوسيط أن المهرب سحب موافقته.
"كانت حياتي عادية، إلى أن تغير كل شيء، فقد اندلعت حرب أهلية ببلادنا، فقررت أن أهاجر من أجل ابني، ولم أكن أعلم أنني سأتركه في قاع البحر وعلى عمق ثمانمئة متر" كانت كلمات الرجل تؤذيني وأنا أسمعها، فما بالكم بحاله وهو صاحبها؟!
جلسنا فريق "يُحكى أن" نستمع للرجل وهو يحكي كيف فقد زوجته وابنه أثناء محاولاتهم الهروب عبر البحر إلى إيطاليا، ضمن مائة وثلاثين من الألبان الذين غرقوا فجر الثامن والعشرين من الشهر الثالث لعام سبعة وتسعين، "بعد أن غادرنا جزيرة سازان شاهدنا السفينة الحربية الإيطالية 577، وقد أجبرتنا على التوقف فى عرض البحر ما بين ساعتين إلى ثلاث ساعات، حتى تمنعنا من التوجه إلى إيطاليا، ثم ظهرت سفينة أخرى، أكبر منها، وكان اسمها " كورفيتا سيبيلا"، وقع ذلك في منتصف الليل، وبدت تلك السفينة أكثر إصراراً على منعنا من التوجه إلى إيطاليا، فلجأنا إلى حيلة، حملنا أطفالنا حتى يشاهدوهم لعلهم يطمئنوا ويمتنعوا عن إيقاع الأذى بنا".
يواصل الرجل فيقول "فوجئنا بالسفينة الإيطالية تعمد إلى الاصطدام بنا ثم تواصل سيرها، وفي لحظات أدركت أنني في عرض البحر أغرق، أما سيبيلا فقد ذهبت بعيداً بعد أن ضربتنا مرتين، حاولت الوصول إليها، لكن الرياح كانت تدفعني بعيداً، وعندما بلغتها كنتُ في إعياء شديد، ولم أتأكد من أنني ما زلت حيًّا إلا عندما شربت بعض الماء الدافئ، صعدنا على السطح، وخلعوا عنا ملابسنا وأعطونا بطاطين، وهم يصرخون فينا إلى أن وصل إلينا حرس السواحل، ثم نزعوا عنا البطاطين، وتركونا عرايا وسط وعيدهم".
أربعة وثلاثون شخصاً هم من نجا، من مائة وثلاثين فرداً كانت تحملهم السفينة، أعادوهم إلى الشاطئ بعد أن تركوا ذويهم في قاع البحر على عمق ثمانمئة متر، الآن فهمت مقولة الشاب الذي قال لي: "إن طموحي الوحيد هو أن تقودني حياتي لأن أصبح إنساناً عاديًّا".
عند الموعد وصلت الفتاتان الصغيرتان، كانتا ترتعشان، بذلنا كل جهد لإدخال الطمأنينة إلى نفسيهما دون جدوى، كانتا تتهيبان الموقف كثيراً، الكاميرات ومعدات الصوت والإضاءة وفريق مكون من ثمانية أشخاص، خمسة منهم من الأجانب.
قرر زميلنا "رشيد" المخرج أن نؤجل التصوير بضع ساعات، واصطحبتهما "زينة" لشراء بعض الحلوى، ثم اجتمعنا عند الشاطئ دون معدات التصوير، قضينا بعض الوقت نمازحهما ونلعب معهما، حتى هدأت نفساهما كثيراً، وبدأتان حديثاً كله ألم عن "الوالد الذي هجرنا إلى إيطاليا ليؤمن لنا حياة كريمة"، عن "الحذاء الجديد والمعطف الذي وعدني والدي أن يشتريه لي حتى أكون مثل الأخريات" ،"مثلاً عندما تبدأ السنة الدراسية لن يكون لدينا المال اللازم لشراء الكتب والأحذية والحقائب، رغم أننا مجتهدتان في الدراسة، فأنا جيدة في علم الأحياء والجغرافيا، بينما أختى مجتهدة في الرياضيات".
علينا معشر الصحفيين أن نكون شاكرين لله كثيراً، نحن نسمع شكاوى الناس ونسجلها ونتعامل معها مادة مهنية للعرض، ويصيبنا بعض الرزق بسببها، وننسى أنه كان من الممكن أن نكون محل هؤلاء، نشتكي الجرح، ونبكي عزيزاً، ولا نطيق الحياة.
شواطئ "فلورا" جميلة، ها هو البحر إذن الذي بات مقبرة للكثير من الهاربين من الوطن، ولكن ماذا عن الذين نجوا؟ إنهم بدأوا حياتهم هناك في الغربة، أكلوا كثيراً وشربوا، اشتروا المعطف والحذاء، وبنوا البيت، لكنهم عاشوا حياتهم كلها غرباء وإن أحسنوا لغة المهجر، ثم عادوا، فاكتشفوا أنهم ما عادوا، ولذا كان يحق لي أني قلت:
هأنذا عدت
ولكن ما عاد الذي راح
لحية الجد
دفاتر المدرسة
ورسائل بنت الجيران
وجه أمي الصبوح
وصوت أبي عند الفجر
يقرأ سورة الإخلاص
وليلة يلتقى فيها الأصدقاء
أحلم لو أنها عادت
وأني أحكي لهم قصتي
وأني أبكي وأبكي
ثم أقول لهم
يا أحبتى هذه حكمتي:
قبر في الوطن
ولا قصر في الغربة
08 – فلورا from AssaadTaha on Vimeo.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.