{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]
أمرٌ إلهي يثير الاستغراب.. فمع اندثار ميراث النبوات، ومع تفشي الشرك واضمحلال نور التوحيد، وفي أمة أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة.. رغم كل هذا ينزل الأمر ابتداءً لا بالدعوة إلى التوحيد، ولا بإيقاظ تراث الأنبياء السابقين، بل أمر بالقراءة التي هي مفتاح المعرفة والهداية.. ولكنها ليست كأي قراءة، فهي ليست قراءة مجردة، ولا قراءة مادية، بل هي قراءة باسم الله، وعلى هدى من الله، وبنور من الوحي العظيم.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه الآية: "إنها وأمثالها من السور التي فيها العجائب، وذلك لما جاء فيها من التأسيس لافتتاحية تلك الرسالة العظيمة، ولا تستطيع إيفاءها حقها عجزاً وقصوراً".
والآن ثلث الرجال العرب لا يقرأون، ونصف النساء العربيات كذلك.. بل إن كل عشرين عربيًّا يقرأون كتاباً واحداً في السنة.
بينما أمة مثل ألمانيا -ما نزل فيهم الوحي، ولا عندهم من ميراث النبوة كما عندنا- يقرأ كل فرد فيهم سبعة كتب في السنة، أي أن كل عشرين ألمانيًّا يقرأون 140 كتاباً في السنة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا يقرأ العرب؟!
والإجابة بصراحة، ودون مواراة، ومن منطلق الواقع والمشاهد: أن القراءة في حياة المواطن العربي لا تمثل حيزاً في حياته؛ لأنها لا مردود لها في واقعه العملي، فالمعيار الاجتماعي والوظيفي -إن وجد- يعتمد على "الشهادة" بالأساس، في حين مسألة النظر للكفاءات أو المواهب أو العمق الثقافي يكاد يكون محدوداً أو معدوماً. بل يمكن أن تنال أعلى الشهادات في بلادنا ويفوز بالوظيفة من هو أقل منك علماً، لمجرد أنه من كبار القوم أو من أصحاب النفوذ أو قادر على أن يدفع رشوة أو يتملق سلطة!
والبحث العلمي في المجتمعات العربية مجرد كلمة أنيقة تقرع الآذان أحياناً في المؤتمرات الرسمية، وفي تصريحات المسؤولين إبان الحديث عن الإنجازات، لكن باستقراء الحال تجده سراباً، وبتفحص الميزانيات المرصودة له تجدها هزيلة أو مضحكة أحياناً، إذا ما قورنت بدولة مثل أميركا أو ألمانيا أو حتى إسرائيل.
إن خطط وبرامج البحث العلمي العربي، ما هي إلا ديكور سياسي مثل برامج محو الأمية وحقوق الإنسان والمجالس النيابية ووزارات الثقافة والتنمية والتخطيط.. وغيرها من واجهات دول المنطقة التي لا مضمون لها.
أما عن الشركات العربية التي تحتاج إلى المتميزين والمطورين والمبتكرين، فالكل يعلم أن العرب أمة مستهلِكة أكثر منها منتجة، وثقافة الاستهلاك تغلب على ثقافة الإنتاج، وأن هذه الشركات العملاقة لا وجود لها في بلادنا إلا النذر اليسير، حتى بات العرب لا ينتجون سيارة ولا طائرة ولا حتى إبرة خياطة.
سيقرأ المواطن العربي لو ارتبطت الثقافة بالتنمية، كما هو الحال في الدول المتقدمة، حيث باتت الحرب المعرفية هي الحرب المعاصرة باقتدار، وبات من يملك المعرفة هو من يملك قراره وحريته وسيادته.
سيقرأ المواطن العربي لو انفتحت أمامه آفاق المعرفة دون حدود أو قيود إلا قيداً يحمي العدل والحق والشرع، أما أن تظل موضوعات مثل: تداول السلطة، والإخفاق السياسي، ومراجعة القرارات السيادية نقداً ونصحاً، ومناقشة الميزانيات العامة، والعدالة الاجتماعية.. تظل موضوعات دونها خط أحمر، فهذا يقبر الثقافة في النفوس.
سيقرأ المواطن العربي عندما يستشعر -بصدق- حرص الأنظمة الحاكمة ومناهج التعليم قاطبة على تثقيف المواطن ثقافة حقيقية، أما أن تظل المناهج التعليمية جافة تعتمد على التلقين لا التفهيم، ولا تترك فرصة للاطلاع الحر والبحث الجاد وتوفير معامل وورش ميدانية يتمرس فيها الطلاب وتنمو مهاراتهم العملية قبل النظرية، فهذا من شأنه أن ينتج إنساناً مسخاً، يحمل شهادة بين دفتيها جهل دفين.
سيقرأ المواطن العربي عندما يجد بعلمه تقدير الجميع وامتنان المجتمع وترحاب المسؤولين، أما أن تنحرف البوصلة، ويستحوذ أهل الفن ولاعبو الكرة على الأضواء والنجومية والعالمية، فتلك كارثة ما لها من نذير.
سيقرأ المواطن العربي عندما تفتح أمامه الأبواب المغلقة، فيصل بسفينة المعرفة للوظيفة والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية، والمكانة المرموقة في عملة، والمنصب الذي يستحقه.
إن من السفه المتعمد أن نحدث الناس عن شعارات: "القراءة غذاء الروح، ونور العقل، ومجد الأمم"، في حين أن البطون خاوية والبطالة متفشية والواقع مرير والمستقبل معتم.
ومن السفه أن نتحدث عن أزمة القراءة والثقافة ونتعجب من إعراض المواطن وصدود الجموع عن المعرفة، ثم لا نسأل أنفسنا: وما عسى أن يصنع المواطن العربي بالثقافة والمعرفة؟!
فيا من تحملون همَّ المعرفة، ويا رسل الثقافة والعلم، ويا من صدعتمونا بالأحاديث والمؤتمرات عن أزمة القراءة.. أفيقوا لأنفسكم، فالناس أفهم منكم لواقعهم، وأبعد عن صخبكم، وأصم عن دعواتكم، فلا قراءة إلا المثمرة، ولا علم إلا الهادف، ولا معرفة بدون جدوى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.