خلال لقاء عفوي جمعني ببعض الشباب سألني أحدهم متى يستقر العالم؟ وقد ضحك بعض الحاضرين واستغرب آخرون من السؤال، ولم تكن ردود الأفعال هذه مفاجئة، إذ ليس من السهل الخوض في مثل هذا الأمر، فالبعض يعتبره تدخلاً في علم الغيب، وآخرون ربما نظروا إليه كما لو أنه نوع من التنجيم.
لكن كل ذلك لم يمنع من الحديث في الموضوع من خلال تأملات في التاريخ والواقع وهي أيضاً سريعة.. الدكتور المهدي المنجرة -رحمه الله- كان أول الباحثين العرب المعاصرين، الذي كتب فيما سماه "بعلم المستقبليات"، ولكن هل يحق لنا وصف توقعاتنا المستقبلية بالعلم. الأكيد أن "تقدير الموقف التاريخي" كما أسميه ليس عملية تنجيم تبحث عن مصادفة لتُصدَّق، ولكنها ليست علماً قطعيًّا الحدوث كذلك، يمكننا إذن اعتباره محاولة لتوقع المشاهد القادمة بالاعتماد على تحليل الماضي، وعلى حسن قراءة معطيات الواقع الراهن، وباعتماد القوانين والسنن الاجتماعية، وهي قوانين إحصائية ترجيحية لا قطعيات فيها..
قد لا يعيد التاريخ نفسه، ولكن في مراحله الكبرى هنالك تشابه وتقاطعات، وقد كان العلامة عبدالرحمن ابن خلدون -وهو المؤرخ التونسي وأحد مؤسسي علم الاجتماع وهو السياسي المخضرم كذلك- قد تحدث عن دورات التاريخ وخاصة عند التماثل بين دورات الحياة الفردية وحياة الدول والعصبيات على تنوعها، فبيَّن في كتابه "المقدمة"، كيف أن الدول تنشأ ثم يشتد عودها وتصل مداها، ثم تبدأ بالتقهقر حتى تصل إلى أرذل العمر فتسقط، وكذلك الكائن الحي في عمره دورات ..
خلال السنوات الأخيرة ومنذ بداية القرن الجديد شهدت الإنسانية عامة وفي منطقتنا خاصة، زلازل اجتماعية وسياسية وحربية، أتت على ما شهدته المنطقة والعالم من استقرار خلال النصف الثاني للقرن الماضي..
من المشروع إذن أن يتساءل الكثير من الناس متى ستستقر الأوضاع من جديد، ومتى تعود الحياة إلى ما كانت عليه قبل عشر سنوات أو أكثر، ويحتار الكثير من الناس وحتى من الباحثين وطلبة العلوم الإنسانية، لماذا طال زمن الاضطراب.. وقد قرأت في مرات كثيرة، لباحثين، وسمعت تصريحات لسياسيين عرب وأوروبيين وأميركان بأن هذه الأوضاع ستحتاج إلى سنوات قد تصل إلى العشر حتى تستقر.. وأعتقد أن حركة النظام الدولي إذا اضطربت اضطراباً شديداً -كما هي الحال اليوم- ستحتاج إلى عقود لا إلى سنوات كي تستقر على مشهد ما..
انظروا إلى القرن العشرين.. كم من حرب عالمية خلاله، وكم من دول شهدت الاستعمار وقاومته واستقلَّت، وكم من مواثيق دولية صودق عليها، وكم من منظمة دولية وإقليمية تأسست وساهمت في فرض السلم والاستقرار وضبط النظام الدولي، ومن أبرزها منظمة الأمم المتحدة ذاتها التي كانت استجابة لرغبة إنهاء الحروب العالمية المتكررة.. لقد احتاج القرن العشرون إلى أن يكون نصفه الأول شديد الاضطراب ليستقر نصفه الثانى على ما سُمِّي بالنظام الدولي..
والسؤال الآن كم سيحتاج القرن الحادي والعشرين ليستقر على حال ما؟! إذا أردنا المقارنة فإنه خلال العشر سنوات الأولى من هذا القرن، شهد العالم ثلاث حروب كبيرة ومزلزلة، أولها مواجهة تنظيم القاعدة الدولي التي بدأت في 11 سبتمبر من السنة الأولى لهذا القرن، وثانيها التحالف الدولي الأوسع لغزو العراق، وثالثها التحالف الدولي للحرب على تنظيم ودولة داعش، وتمتلئ الدنيا اليوم بالحديث عن خطر نشوب حرب عالمية رابعة بسبب سوريا، خاصة إذا استمر التدخل الروسي بلا حدود ولا ضوابط وتدخلت السعودية وتركيا على الأرض، وحصل بينهم والروس احتكاك، مما سيدفع الولايات المتحدة الأميركية إلى الخروج عن موقف "الحياد" الحالي..
على أية حال سيحتاج هذا القرن إلى عقود أخرى "على الأرجح" حتى يتم الاتفاق على نظام دولي جديد، أو يتم فرضه ربما، وبحكم تطور الإنسانية وانتشار التعليم والتكنولوجيا، ولأننا في عصر السرعة كما يقال، فقد لا نحتاج إلى كل المدة الزمنية الطويلة التي اضطر إليها إنسان القرن الماضي، اذ يمكن توقع استقرار العالم على مشهد جديد في نهاية ثلاثينات هذا القرن أو بداية الأربعينيات منه..
قد يرى البعض أنه أجل طويل، قد ينسى هولاء أن آباءنا وأجدادنا احتاجوا إلى أكثر من خمسين سنة حتى يستقر عالمهم، غير أن مشكلة واحدة قد تطيل هذا الاضطراب، فقد "استقر" الوضع الدولي في القرن الماضي وظلت فلسطين تحت الاحتلال، أما القرن الحادي والعشرون، فلن يستقر قبل أن يصل العالم والفلسطينيون أنفسهم إلى وضع عادل، من يدري؟.. قد يشهد جيلنا تحرير القدس!
والسؤال الذي سيطرح نفسه بإلحاح الآن هو: على أي صورة سيستقر العالم بعد سنوات طويلة؟ وما القوى الجديدة القادمة؟ ومن هي القوى الآفلة؟ ثم أليس الأَولَى أن نحدد من وجهة قراءتنا عناصر القوة في المستقبل، حتى نحسن توقع القوى التي ستقود العالم بعد عشرين أو ثلاثين سنة، هل ستكون قوة السلاح الحربي هي المحدد في النظام الدولي المستقبلي، أم ستكون قوة الرأي العام والشعوب بحراكها المدني، أم أن الاقتصاد وتكنولوجيا المعرفة ستكون لها الكلمة الأخيرة في هذا الصراع الشديد..
إذا اعتمدنا ما يجري في العالم اليوم ومنذ بداية القرن، فإن التنافس شديد بين العنف والحروب من جهة وبين الاقتصاد والمعرفة من الجهة الأخرى، غير أنه أحياناً تختلط المشاهد حتى يصبح تبادل الأدوار والمنافع بين العنف والاقتصاد أحد الاحتمالات المرجحة..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.