أحاول بقدر الإمكان أن أتجنب مشاهدة الفواصل الإعلانية أثناء مشاهدتي للتلفزيون، ففضلاً عن أنها تبعث على الملل، وأنها لا تلبث أن تنتهي إلا وتبدأ من جديد، فإنها أيضاً تلفت نظري إلى أشياء مختلفة، تجعلني أراها بمناظير جديدة، تبعث في نفسي أحياناً بعض الضيق.
حين أرى أي إعلان جديد، يتراءي لذهني مجموعة من فريق العمل يجلسون على طاولة اجتماعات كبيرة من الطراز "المودرن" في مكتب زجاجي يغلب عليه جو من الفتور ويخيم عليه خواء قاتل، يحاولون جاهدين العمل معاً ليخرجوا أفضل ما في رأسهم من "إبداعات" -إذا جاز تسميتها بذلك- من أجل صياغة إعلان عن منتج أو خدمة ما، أهم شروطه أن يجذب الانبتاه ويحقق نسب المبيعات المطلوبة، دون النظر إلى أخلاقيات المهنة، غير عابئين بفحوى الرسالة التي قد يفهمها المُخاطَب من الجمهور في هذا الإعلان، إلا من رحم ربي منهم، فاستطاع أن يحتفظ بأدني قدر من القدرة على الإبداع اللطيف الذي يحرك الذهن بدون أن يثير الضغائن في النفوس.
نعم، يثير الضغائن في النفوس، ربما ترونها جملة كبيرة على موضعها هنا، فكيف لإعلان بسيط مدته لا تتجاوز الدقيقة أن يحرك الضغائن في النفس؟ ربما ترون أن الموضوع أكبر مما يستحق، وأنني أسعى بشدة وبجَلَد خلف كل ما أراه مُنافياً للطبيعة، لكن هذا ليس صحيحاً، فبعد بزوغ ظاهرة كاتبي النصوص على مواقع التواصل الاجتماعي وانتقالهم للعمل بالبرامج والقنوات الفضائية، لم يعد الإعلان مجرد فقرة صغيرة، وإنما أصبح بمثابة فيلم قصير يحاكي الواقع ويأخذ منه، ليواجهنا بمشاكلنا وعيوبنا التي لا نراها بغير قصد أحياناً، وبقصد في أحيان أكثر.
بدأت مشكلتي مع فحوى ورسائل الإعلانات منذ وقت بعيد، مذ أن رأيت إعلاناً لشركة مُنتجة لمشروب شعير تُسَوِّق لطعمه السيئ بأنه مناسب للرجال فقط، القادرين على احتمال الأهوال، لتتوالى إعلاناتها السخيفة واضعة قوالب وتابوهات خرسانية للرجولة، لا يجب أن يخالفها الذكر حتى لا يخرج عن معايير الرجولة ومقاييسها عند المجتمع، فلا يجب أن يرتدي الألوان، أو أن يتصف بالحنان والرقة والحياء، لأنها -في نظر مسؤولي الحملات الإعلانية في الشركة- صفات أنثوية بشكل أو بآخر، مما دفعني إلى كتابة مقال سابق عن هذا، موضحة فيه أنه "مع الوقت أصبحت الإعلانات مادة مهمة وقوية تؤثر في المجتمع، وتتأثر به مما أدى إلى اشتعال المنافسة بين الشركات الدعائية والإعلانية لإبراز مواهبها واستعراض عضلاتها المفتولة في جذب المُشاهِد، والاستماتة في تعليق ذهنه بالمنتج، حتى ولو كان هذا على حساب استغلال ثقافة المجتمع الموروثة والموبوءة باعتبارها مادة "لذيذة" للفُكاهة، غير مهتمة بأن ما تفعله يتمثل في السخرية من الآخرين وتنميط الرجل والتقليل من المرأة وإفساد العلاقة بينهما، لتصبح عنواناً للعنصرية والتحقير، فالشركات الدعائية على دراية تامة بأن أقرب طريق لقلب المصري ضحكته، فتضغط على حس الفكاهة -الذي لا أراه مضحكاً مُطلقاً- المتمكن من قلوب المصريين وتُرسخ أفكاراً نحاول جاهدين التخلص منها ومعالجتها بشتى الطرق، وتتصيد مظاهر البؤس في مجتمعنا، فتُلمعها وتُعيدها إلينا في شكل إعلان فُكاهي بسيط، لتثبت بكل ضحكة صادرة من المواطن، أن موادها الإعلانية شيء عادي نتعايش معه ونحيا به".
حاولت تجنب هذا الإعلان تحديداً دوناً عن غيره بشتي الطرق، أغلقت التلفزيون مراراً، وحولت القنوات الفضائية تكراراً ريثما ينتهى، لكنه لا يكف عن ملاحقتي، لأجد مواقع التواصل الاجتماعي تحفل به وتتحدث عنه وعن مدى الإبداع الذي يتسرب منه ليملأ الكون، غير مُنتبهين إلى كم الرسائل السلبية المُنبعثة منه في حق المرأة.
يبدأ الإعلان بديك لطيف ظريف يُغني، يتحدث بأنشودته ذات اللحن المميز خفيف الوقع على السمع عن ظروف العمل الشاق في معسكرات الدواجن التي تُخرِج للمُستهلِك دجاجاً مُختلفاً ذا معايير مثالية.
يتحدث الديك عن المواصفات القياسية المطلوبة في الدجاجة التي تستحق العمل في مزارع هذه الشركة، فيقول إنها يجب أن تكون "بنت بنوت" أي آنسة بالعامية المصرية، لم يمسسها ديك من قبل، فلا يجب أن تكون مُتزوجة أو لديها كتاكيت أطفال، لتتفرغ تماماً للعمل، فلا تبيض ولا تُنجِب لأنه لا وقت لدى المزرعة في إعطائها أجازة وضع أو أمومة..
يجب أن تكون من عائلة محافظة وراقية، تنفر من أي ديك إذا اقترب منها.
أما عن المواصفات الجسدية، فحدِّث ولا حرج، يجب أن تكون ممتلئة لكن بشكل لا يجعلها سمينة، يجب أن تكون رشيقة لكن مكتنزة ببعض المناطق، لينتهي الإعلان بالديك قائلاً: إن العمل شاق لكنه سيجعلك جديرة ومُستحِقَّة للعمل بمثل هذه المزرعة التي تبحث عن المثالية.
أعلم إنه قد يتهمني البعض بالسفه لأنني شعرت بالضيق من إعلان عن دجاج بمواصفات قياسية ممتازة صالحة للأكل، لكنني أعلم أيضاً -بل أتيقن- من أنهم إذا نظروا إليه بمنطلاقات أبعد بقليل، مثل منطلقات المرأة المثالية في نظر المجتمع مثلاً، سيرون كمَّ العنصرية المُنبعث من فحوى الإعلان.
إن الإعلان يقوم بترسيخ فكرة المرأة السوبر أو المثالية ويضع لها معايير معينة وتابوهات لا يجب أن تخرج عنها إذا ما أرادت أن تظل أنثى بنظر المجتمع، فهي رشيقة، نحيلة، مكتنزة في بعض المناطق، مُحافظة لم يمسَّها أحد ولم يدغدغ مشاعرها أي ذكر، عذراء القلب والروح، وإلا كيف تكون محترمة بنظرنا إن سبق لها الحب؟ كما يفترض سوق العمل الخاص -في مجتمع ينظر لجسد المرأة قبل عقلها ويستهلك الإنسان عامة والمرأة خاصة استهلاكاً مجرماً- ألا يعطيها الفرصة لتأخذ أنفاسها، فهو يحرص كل الحرص على أن يجعل العاملين لديه تروساً في آلة، ويضع معايير قياسية جبارة ومقاييس مثالية لا تستطيع المُتقدمة للوظيفة أن تلحقها ولا يجب أن تقل عنها، لا تتعلق البتة بكفاءتها في العمل أو بمعرفتها أو بعلمها أو بخبرتها، بل تختص بأشياء تافهة وسطحية.
إن سوق العمل الخاص يفرض على المرأة العاملة -وإن كان بطريقة غير مباشرة- أن تكون مُتفرِغة لعملها بكل الوسائل، فلا يمكنها أن تكون متزوجة حتى لا تطلب حقوقها في أجازات الوضع والأمومة، يفرض عليها أن تكون مثالية الوزن في مهن لا تتعلق بوزنها إطلاقاً.
حكت لي صديقتي الطبيبة الصيدلانية بأحد فروع صيدلية كبري، أنها حين حملت بطفلها الأول عانت مما أسمته "التطفيش"، لأنه لا يوجد قانون يمنع عمل المرأة الحامل، لكن لأن شكلها لم يعد متناسباً بما يكفي بآثار الحمل من زيادة في الوزن، اتخذت معها الإدارة أساليب مُتعنتة ومُرهِقة لإرغامها على الاستقالة..
إن بعض أصحاب الشركات الكبري يضعون في الصفات المطلوبة للعمل معايير جسدية وشكلية غريبة، فبعضهم يطلبون المحجبات بينما يرفضونه آخرون، بعضهم يطلبون قواماً ممشوقاً والآخرون يطلبون قواماً مكتنزاً، أقسم إنني رأيت إعلانات عن العمل مُخزية، يُوضع بها صفات جسمانية غير مُتعلقة بالكفاءة في العمل، مثلما يفعل إعلان الدجاج الساذج هذا، فيُحيل المرأة إلى قطعة من اللحم، وينظر إلى مقوماتها الجسدية أكثر من عقلها وكفاءتها.
عزيزتي، إن تجاربك العاطفية السابقة لا تجعلك بالضرورة ساقطة وإن أخطأت، إن التجارب السابقة والعثرات الحياتية وزلات الماضي هي من تصنع منا شخصيات قوية مُكافِحة قادرة على المثابرة والاستمرار، فالاحترام منوط بالعقل والأخلاق، لا بعذرية القلب والشفتين.
لا يجب أن تكوني دائماً مثالية في نظرهم، إن معاييرهم أساساً ليست بالمثالية، فأي مثالية في أن تكوني بمقاس 10 لكن بعقل بحجم عقلة الأصبع؟
من حقك أن تعملي وتتزوجي وتنجبي، وأنت قادرة على أن توفي أسرتك وعملك حقوقهما كل على حدة، فلا تستجيبي لمقاييس سوق العمل الفاشية، ولا تتقدمي لعمل يطلب منك أن ترتدي الحجاب أو أن تخلعيه، فأنت من تحددين هويتك وليس هم.
أعلم إنه في النهاية سيظل إعلاناً للدجاج في نظر الكثيرين، لكنه في نظري سيبقى رسالة سلبية تحمل في طياتها الكثير من السيئات بحق المرأة، وتُرسِّخ قوالب فكرية جامدة عن كينونة المرأة وعنوان أنوثتها، سيبقى عُرف الديك (المجتمع) هو الحاكم الوحيد في تعريف الدجاجة المثالية، كما سيظل إعلان مشروب الشعير مجرد فقرة فكاهية على التلفزيون، لكنه في نظري سيبقى ممثل عن أكبر أعداء الرجل في بلادي!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.