مدهشة هي قدرة البعض على التلون وتغيير الأقنعة والولاءات، فتراهم يتنقلون كذكور النحل من زهرة لأخرى، يجنون رحيقاً لكنهم لا يصنعون عسلاً، تجدهم يتطوعون ويعرضون خدماتهم على كل من يطلبها، وتراهم يتنطحون لكل مهمة أو مسؤولية طالما أنها ستدر عليهم مالاً أو ستمنحهم منصباً أو جاهاً، وإذا ما ذُكر المتلونون فلا بد وأن يكون "الجربا" على رأس القائمة.
قبل عدة أسابيع وتحديداً بتاريخ الحادي عشر من شهر مارس/آذار من هذا العام 2016 أعلن في العاصمة المصرية القاهرة عن ولادة ما يسمى بـ "تيار سوريا الغد" حيث أريد لعملية إشهار هذا التيار أن تأخذ أهمية كبيرة من خلال الحملة الإعلامية ونوعية المدعوين لحفل الإعلان عن ولادة التيار، وهو ما حدث بالفعل حيث تركزت الأنظار حينها ولأيام ليس على التيار بحد ذاته ولا على أعضائه أو مصادر تمويله ولا نظامه الداخلي، بل على داعمي التيار والتوليفة الغريبة للحضور.
فمن محمد دحلان، إلى السفير الروسي في القاهرة، إلى ممثل للبرزاني، وآخر عن سعد الحريري، ونائب عن جعجع، إلى معمم شيعي، فممثل لصالح مسلم ووحدات حماية الشعب الكردية، وآخرين غيرهم، هي توليفة كانت تنبئ -وبلا أدنى شك- عن توجهات هذا التيار الجديد، إذ يكفي السوريين أن يعرفوا أن الجربا هو زعيم التيار كي يحكموا عليه بالموت حتى قبل ولادته، أما أبرز أعضائه فهم بهية مارديني وزوجها القربي، إضافة إلى الشيوعي قاسم الخطيب.
الجربا وخلال كلمته أمام الحضور أكد على جملة من الأمور أهمها:
أشاد بالدور الروسي في تثبيت الهدنة في سوريا، ووقف أعمال العنف هناك.
شدد على أن التيار هو تيار ديمقراطي تعددي متحالف مع المجلس الوطني الكردي ووحدات الحماية الكردية في سوريا.
أكد على لامركزية السلطة في سوريا، وأن سوريا تتسع لأحلام الجميع وحتى "مغامراتهم" وليست بقياس "كوابيس السلطان" ومرتزقته "يقصد تركيا".
ركز مراراً وتكراراً على محاربة الإرهاب وقتال "داعش وأخواتها" ولم يتطرق إلى قتال نظام الأسد خلال كلمته.
وجه رسالة شكر خاصة لمصر ومشيرها الرئيس عبد الفتاح السيسي على "رعايته للقضية السورية" واستضافته لمؤتمر القاهرة، ومؤتمر تياره.
وجه رسالة شكر خاصة لمسعود البارزاني بقوله: لن يفوتني هنا التنويه إلى وشائج الأخوة ومعموديات الدم والملح التي تجمعنا بأهلنا "الكرد" خارج حدود الجغرافيا السورية، والتي ارتسمت تاريخياً وتجسدت بأبهى صورها في العلاقة مع الأخ والصديق الرئيس مسعود البارزاني، الذي نخصه بتحية مستحقة عما قام ويقوم به لصالح قضية شعبنا.
من المفارقات أن هذا التيار بمدعويه، هو نتاج تغير السياسات في المنطقة، وخاصة السياسة السعودية التي لفظت الكثيرين وعلى رأسهم الجربا والحريري، وهو ما دفعهم للارتماء في الحضن الروسي – الإيراني، لكن المحزن في الأمر هو متاجرة هؤلاء في آلام الشعوب، من خلال التجيير الظالم لمصالحهم الشخصية وإسقاطها على القضية السورية، حيث بات هذا الأمر هو السمة الغالبة للكثيرين، فتحقيق مصلحة شخصية لفرد أو حزب أو جماعة هو تحقيق لمصلحة الوطن، وبهذا أصبحت الخيانة والعمالة والسرقة جميعها أشياء تمارس نهاراً جهاراً وباسم الوطن، فالجربا يوجه تحية خاصة للسيسي على دعمه ورعايته له ولتياره، ثم يجير هذا الدعم على أنه دعم للقضية السورية، في حين أن السيسي كان ولا يزال أحد أكبر داعمي الأسد سياسيا وإعلاميا وعسكريا.
أما تحيته للبارزاني فهي دين للبارزاني في عنق الجربا، كيف لا وقد أوعز البارزاني للأكراد من أعضاء الائتلاف بانتخاب الجربا رئيساً له، من ناحية أخرى فإن تركيز الجربا على حرب داعش وأخواتها ومعمودية الملح والدم مع الأكراد، لها أسباب قوية، إذا عرف سببها بطل عجبها، فآل الجربا كانوا يديرون معبر اليعربية مع العراق، وذلك بالتعاون مع وحدات الحماية الكردية، حيث سربت حينها معلومات عن تقاسم إيرادات المعبر بنسبة 15% لآل الجربا و15% للوحدات و70% لنظام الأسد، وذلك قبل قيام تنظيم الدولة الإسلامية بطردهم من المعبر حينها.
من هنا يمكننا اعتبار معمودية الملح والدم حقيقة وليست خيال، أوليس الجربا نفسه هو من سوق لوثيقة التفاهم مع الأكراد؟ أوليس هو من ضم 11 عضواً إلى ائتلاف المعارضة؟ وهو الذي رشح أحد أبناء عمومته المدعو حميدي الجربا ليرأس كانتون الجزيرة بالاتفاق مع حزب الاتحاد الديمقراطي بي واي دي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني؟ أليسوا هم شركاء وحدات الحماية الكردية، فيما يسمى قوات سوريا الديمقراطية التي هجرت العرب من قراهم وبلداتهم؟ أليس هو وأبناء عمومته من آل الجربا هم من يُشَرِّعون للمعتدي عدوانه؟ فكيف لا يباركون له فيدراليته وحتى انفصاله؟
من حامل شهادة علوم سياسية ثبت زيفها، إلى خادم للنظام قدم لوحة زيتية لزوجة الأسد، إلى تُهَمٍ بتجارة المخدرات والاعتقال، مروراً بتسلم ملف تسليح الثوار ورئاسة الائتلاف، وملف معالجة الجرحى، وما قيل عن تلقيه منحة سعودية بقيمة 100 مليون دولار لم يعرف شيئاً عن مصيرها، حتى ملف الحجاج السوريين وضع يده عليه، وانتهاء بتشكيل أغربِ تيار موالٍ لروسيا، مهادنٍ لإيران، حليفٍ للانفصاليين الأكراد، موافقٌ على شرذمة سورية، معادٍ للأسد ظاهريًّا ومتجاهلٍ لجرائمه، والأخطر هو ما سرب عن مغازلته لإسرائيل وطلبه لدعمها.
ترأس الجربا الائتلاف السوري لفترتين كاملتين كانتا الأكثر سوداوية لما تميزتا به من فردية وتشبيح حيث زار إيران في الشهر الثالث من العام 2015 دون التشاور مع أعضاء الائتلاف، وكذلك مباركته المنفردة للسيسي برئاسة مصر، اعتداءات بالضرب، عراك وشتائم بينه وبين أكثر من عضو من أعضاء الائتلاف، وكذلك ما حدث خلال فترة رئاسته من شرذمة وتناحر واقتتال بين السياسيين والعسكريين على حد سواء، فقد كان المال أحد أهم أسباب الخلافات، حيث استأثر الرجل بما قدم من دعم عربي ودولي سخره لتثبيت أقدامه، فوضع العراقيل أمام الحكومة المؤقتة، وانقلب على اللواء إدريس وهيئة الأركان، ووصل به الأمر حد تشكيل قوات عسكرية وغرفة عمليات يشرف عليها شخصيًّا.
جملة ممارسات دفعت عضو اللجنة القانونية ورئيس لجنة العضوية في الائتلاف مروان حجّو الرفاعي للمطالبة بإحالة رئيسي الائتلاف هادي البحرة وأحمد الجربا إضافة إلى المعارض فايز سارة إلى التحقيق والمحاسبة بتهم فساد وتآمر.
يقول "ميشيل كيلو" محمِّلًا الجربا مسؤولية هزائم الجيش الحر: إنه عندما تسلَّم الجربا رئاسة الائتلاف، كانت مناطق مثل تلكلخ، القصير، جنوب وشرق دمشق، الغوطتين الشرقية والغربية، يبرود، النبك، حمص، حلب، الرقه، دير الزور، في يد الجيش السوري الحر، لكن كل هذه المناطق خرجت عن سيطرة المعارضة، وثم غرق الجربا في استخدام المال السياسي.
الجربا ساقط شعبيًّا وثوريًّا منذ الشهر الثالث من العام 2014، ولا شرعية لأي حزب أو تيار يشكله باسم السوريين، فسقوط يبرود بيد نظام الأسد دفع السوريين لتخصيص جمعة باسم جمعة إسقاط رئيس الائتلاف الجربا.
أحد قيادات جبهة النصرة في سوريا، كان قد وجه أصابع الاتهام للجربا عندما كان رئيساً للائتلاف، بسرقة أموال المساعدات المخصصة للشعب السوري، حيث كتب القيادي سامي العريدي عبر صفحته الخاصة على "تويتر" أن الجربا سرق 75 مليون دولار كانت مخصصة لمعالجة الجرحى والمشافي السورية، واستدل العريدي على اتهامه للجربا، باعترافات قائد المجلس العسكري بدرعا العقيد أحمد النعمة، الذي اعتقلته جبهة النصرة، واعترف عبر تسجيل مصور بسرقة الجربا للأموال.
لا أحد يعرف الكثير عن تاريخ الرجل سوى ما سرب عن علاقاته برجالات النظام قبل الثورة، ولعل في هذه العلاقات ما يستحق قيام نظام الأسد بتقديم ملف خاص بالجربا لأجهزة استخبارات غربية قيل إنه يحتوي على أسرار وفضائح للرجل، وهو ما يمكن اعتباره خطوة استباقية من نظام الأسد المخابراتي لفضح أكثر من شخص قد يفكر في تخطي حدوده أو منافسة الأسد مستقبلًا، وبهذا فإن الجربا يكون أحد كبار المغامرين والمقامرين في آن معاً، وربما هذا هو سبب تأكيده على أن سوريا تتسع لأحلام ومغامرات أبنائها.
لقد قدم الجربا نفسه على أنه القائد الثوري والسياسي وشيخ العشيرة، رغم أنه أبعد ما يكون عنها جميعاً، وهو بهذا شوَّه صورة الثورة والسياسة وحتى العشيرة التي لا تعترف به شيخاً عليها، فقد شوَّه صورة عشيرة شمر إحدى أكبر وأعرق عشائر المنطقة العربية.
رَفْضُنَا للجربا وتيارِه ليس شخصيًّا، فليترك سوريا وثورتها، وله حرية المغامرة والمقامرة بما يشاء، ولكن ليس بسوريا، فهي أكبر من أن يقرر مصيرها رويبضة مثله. إنه المال الفاسد الذي يشتري ضعاف النفوس ويوحدهم ليصبحوا غطاء يشرعن للآخرين مشاريعهم الهدامة.
المآخذ على تيار الجربا عديدة لكن يمكن إجمالها بعدد من النقاط أهمها:
إقامة الجربا في مصر واحتضان نظام الانقلاب لتياره وامتداحه لهذا النظام الداعم لبشار الأسد.
امتداح الجربا للدور الروسي في سورية والمنطقة وحضور السفير الروسي لحفل إشهار التيار.
تركيز الجربا على محاربة ما يسمى بمحاربة الإرهاب وعدم ذكره لمحاربة وقتال نظام بشار.
تحالفه مع وحدات الحماية الكردية المجرمة التي مارست كافة أشكال التطهير العرقي بحق العرب.
ما تم تسريبه من معلومات عن اتصالاته المشبوهة بالكيان الصهيوني واستجداء مساعدته.
تآمر الجربا مع وحدات الحماية لا يقف عند حد، وما إعلانه الحرب على "داعش وأخواتها" إلا غطاء للسيطرة حتى على كافة المناطق الشرقية من سوريا والتي يخضع الكثير منها لسيطرة الجيش الحر والفصائل الإسلامية الأخرى.
من هنا يتبين لنا أن هذا الرجل ومعه ثلة من أبناء عمومته، قد كان يتنقل من معسكر لآخر فيعطي الولاء للجميع وعلى حساب سوريا وقضيتها، حتى وصل به الأمر حد أن يبيع سوريا للميليشيات الانفصالية الكردية، ويقدم فروض الطاعة والولاء للصهاينة عله يستطيع الوصول إلى السلطة.
الذين يعرضون ولاءهم على الصهاينة اليوم هم أنفسهم الذين سهلوا لإيران عملية تشييع سوريا بالأمس، وهم الذين لا يزالون يُسَهِّلون دخول عناصر الميليشيات الشيعية من العراق إلى سوريا، فعن أي سورية يتحدثون وأي إرهاب سيحاربون؟
أليس من المفارقات العجيبة أن يقوم شخص كالإعلامي اللبناني المقرب من حزب الله فيصل عبد الساتر بامتداح التيار والثناء على أعضائه من أمثال عمار قربي زوج بهية مارديني؟ هل كان عبد الساتر ليمتدحهم لو كانوا يعملون حقا لخدمة الثورة السورية؟
أي وقاحة هذه التي دفعت حثالة القوم للمجاهرة بخطب ود الكيان الصهيوني ومغازلته بعد أن تبين أن هذا الكيان هو الحليف الأوثق لنظام الأسد؟ فتعلموا الدرس من الأب وابنه؟ فهل ثرنا على بائع الجولان كي نستبدل به باعة جدداً؟ ثم حتى بائع الجولان الأسد الأب لم يفعلها بهذه الطريقة الفجة التي تفعلها المعارضة، بينما ابنه لا يزال يوزع الوطنية على المعارضة ويتهمها بالعمالة للولايات المتحدة وإسرائيل رغم دعمهما له. تبًّا لهذا الكرسي!
مشكلة ثورتنا أنها في سوريا، وهو ما جعلها يتيمة لعدة اعتبارات أهمها وجود الكيان الصهيوني على حدودها، وصحيح أن الأصدقاء كثر لكنهم كانوا كغثاء السيل إلا من رحم ربي، فعاث المفسدون فيها خرابا، وهو ما شجع سفلة القوم ورويبضاتهم من السوريين على تصدر المشهد والمتاجرة بالدماء والأعراض والدمار، حتى باتت العمالة شرفاً والخيانة وطنية، فأصبح الكل يجاهر بما لديه دون وازع من ضمير أو خوف من حساب، فإن لم تستحِ فافعل ما شئت، ومن أمن العقاب أساء الأدب، فهم يظنون انهم يسيرون في ركب القوي المنتصر، لذلك فإنهم مستمرون في غيهم بوقاحة، سلاحهم في ذلك حرب مزعومة على الإرهاب ودعم دولي وإقليمي، يزيف الحقائق، فيجعل من الحق باطلاً ومن الباطل حقاً.
ولأن العنوان هو الحرب على الإرهاب، فلا أحد يملك القدرة على الاعتراض، ومن يفعل فسيكون أحد رعاته أو داعميه، ليس مهما أن تكون صاحب حق، فالقُصَّرُ لا يملكون حق التصرف بما يَرِثونَ ولا بد من وصي، وطالما أن السيد قرر أن الثورة على المستبد إرهابٌ، فقد خلع التابع قناع الثورة واستبدله بقناع جديد، قناع يناسب سوريا الغد "سوريا الجربا" التي بات شعارها: شركاء لا أعداء، نعم للخيانة والعمالة، عاش الجميع ولتسقط سوريا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.