يكاد لا يمر يوم خلال السنوات الخمس الأخيرة، إلا ونسمع عن مجزرة تطال عائلة بأكملها في منطقة الشرق الأوسط. عاشت هذه المنطقة نوعاً من الاستقرار في العقد الأخير من القرن الماضي، سببه تحجيم قوة صدام، اتفاقيات أوسلو ووادي عربة، وحصر الصراع العربي الإسرائيلي بساحة لبنان كتصفية حسابات محسوبة النتائج بين القوتين الإقليميتين إيران وإسرائيل. أتت هجمات 11 أيلول عام 2001 لتعطي الإدارة الأميركية بعهد الجمهوريين (جورج دبليو بوش) مسوغات لغزو العراق وإنهاء حكم صدام، وعندها بدأت مرحلة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
قبل الغوص في السبب الرئيس لهذه الحالة، سنذكر قاعدة سياسية مهمة جدًّا لفهم الصراع في المنطقة: "رسم الحدود القانونية بشكل منسجم مع الخطوط الأمامية الجيوسياسية والجيوثقافية تعكس علاقات سياسية مستقرة بشكل عام".
من الأمثلة على ذلك، الحدود الإيرانية – التركية بعد اتفاقية قصر تشرين عام 1639، التي نجم عنها تحوّل الخط الجيوسياسي الطبيعي بين البلدين إلى حدود قانونية. أيضاً تكوين الولايات المتحدة لخط جيوسياسي واسع، على طول القارة الأميركية، قد أعطى لهذه الدولة إمكانية التكامل بين الأحزمة الجيوسياسية واستقرار دائم. أما القاعدة المعاكسة تقول "عدم انسجام الحدود القانونية بين الدولتين مع البنى الجيوسياسية والجيوثقافية والجيواقتصادية للمنطقة يؤدي إلى عدم الإستقرار". الأمثلة كثيرة في منطقتنا، كالحدود بين العراق وتركيا وسوريا، التي كانت بدورها مصدراً للأزمات التي حدثت في المنطقة.
وكمثال آخر، الصراع الدائر بين باكستان والهند حول منطقة كشمير. أيضاً التوتر الذي حصل نتيجة الاختلاف بين الدول الأوروبية في فهمها للحدود الذي رسمه السلام الوستفالي، وبين واقع الحدود الفعلية الموجودة بين الأطراف المختلفة (القوميات) قد كان مصدراً للحروب التي حصلت داخل هذه القارة.
إذا نظرنا إلى خارطة الشرق الأوسط، نرى معظم الحدود التي رسمها سايس-بيكو لم يراعِ التداخل الجيوسياسي والجيوثقافي والجيواقتصادي، ولم يراعِ التداخل العرقي والديني واللغوي بين مختلف الأطراف. لهذا السبب نرى أن معظم الصراعات التي نشأت كان مركزها تلك الحدود غير الصلبة. لهذا السبب نرى أن الحروب اليوم تتركز حول محيط تركيا، وآخرها خبر اندلاع الصراع القديم الجديد بين جورجيا وأرمينيا.
بعد أن أسقطت تركيا الطائرة الروسية الحربية، بدأ بوتين باستفزاز تركيا في كل المجالات، حتى وصل به الأمر أن يفتح التاريخ على مصراعيه ليبدأ رحلة فتح باب الجحيم في المنطقة. تاريخياً، ظلت منطقة القوقاز أحد المحاور الأساسية لاستراتيجية التوسع الروسية – السوفياتية، وتعتبر المضائق التركية امتداداً طبيعيًّا لهذه المنافسة التاريخية، كما أنها كانت عاملاً مهماً في انضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي، لتخلق من القوقاز جداراً يفصل هذا الحلف عن حلف وارسو. اليوم تلعب روسيا على التناقضات والاختلافات العرقية والدينية واللغوية في القوقاز، بعد أن كانت مستترة ومدفونة أثناء حقبة القوة السوفياتية.
ماذا تعني منطقة القوقاز؟ جغرافياً، هي امتداد طولي للمنطقة المشتعلة بالحروب والمعارك في العراق وسوريا. سياسياً، تشكل المنطقة معادلات إقليمية مثيرة: تقارب (روسي – أرميني) وتقارب (تركي – أذري)، مما عكس على توازنات أخرى، تطور العلاقات (التركية – الجورجية)، و(الإيرانية – الأرمنية). هذه التوازنات والمعادلات، إضافة إلى التداخل العرقي الإثني اللغوي، تشكل إنذاراً بإمكانية انفجار الوضع، وربطه بحروب الشرق الأوسط ليشكلوا معاً حزاماً معدوم الاستقرار فيه يُطوِّق تركيا من الشرق والجنوب. هل سيأتي الدور قريباً إلى منطقة البلقان أيضاً ليكمل الطوق حول عنق تركيا!
الولايات المتحدة حتى الآن تركز سياستها على عدة محاور: محور إكمال صفقة الاتفاق مع إيران في الملف النووي، ومحور الانسحاب من المنطقة لعدة أسباب، ومحور ترسيخ "إسرائيل" كأقوى دولة أقليمية في المنطقة. ولكن لا يُمكن أن نبرئ الولايات المتحدة من تهمة أنها السبب الرئيس في إشعال الحروب في المنطقة.
قراءة في مواقف الدول الكبرى من غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، تفضي إلى بلورة وفهم: لماذا وقف معظمها ضد الحرب؟!
روسيا، عبر بوتين، اعتبرت صدام حسين خطيراً لكنه وقف ضد الحرب؛ السبب المنطقي هو الخوف من امتداد الهيمنة الأميركية من الخليج إلى الشمال حتى القوقاز. أما بوش فصنف رد روسيا خشية عرقلة صفقات النفط المربحة. فرنسا أيضاً، اعتبر بوش عدم موافقتها لأسباب اقتصادية. أيضاً ألمانيا، عبر مستشارها غيرهارد شرويدر الذي بدّل رأيه من داعم ل بوش إلى اتهامه أنه "هتلر هذا العصر"! إسبانيا، عبر أزنار، وقفت مع بوش، فحاسبه شعبه بإقصائه انتخابيًّا بعد ستة أشهر. ولكن ما يمكن أن نفسر رفض تلك الدول، هو ما آلت إليه الأوضاع اليوم في المنطقة والهجرة التاريخية التي تهز أمن أوروبا.
الولايات المتحدة ما زالت تلعب على التناقضات العرقية والإثنية والقبلية في مختلف الحدود غير الصلبة بين الكيانات لحل المشاكل، وقد خلص "مركز دراسات الوحدة العربية" إلى اعتبار أن إدارة أوباما مدانة بفتح الحدود العراقية السورية لتيسير وصول القاعدة إلى الداخل السوري بأمل أن يتكفل ارتطامها بالجيش بتهميش الاثنين، وهو غب الطلب عندها، فإذا بها تقع في مشكلة أكبر، إذ تنامت عظمة شوكة كل منهما، ليدخل "حزب الله" الصراع أيضاً ويصبح في مصاف قوة إقليمية.
الولايات المتحدة ستنسحب تدريجياً من المنطقة، بعد إخفاقها بصناعة الشرق الأوسط الجديد. ظنت أن بصواريخها وطائراتها وجيشها تستطيع أن تبني دولة ديمقراطية في العراق، من ثم تضغط على إيران وسوريا ليسيروا على نهج الإصلاحات فالديمقراطية المدنية الحديثة، فإذ بالاثنين يستنزفاها عبر الفصائل السنية "المتشددة".
الولايات المتحدة ستنسحب تدريجياً بعد أن ضاقت بها ذرعاً عدم إذعان الحكومات العربية بضرورة تهميش المؤسسات العسكرية عن الحياة السياسية، فإذ بالأخيرة تنقلب على الشرعية وتستفز الإدارة الأميركية بملف "محاربة الإرهاب". الولايات المتحدة ستنسحب تدريجياً بعد أن فشلت في إقناع الملكيات الثيوقراطية بضرورة الانتقال إلى حكم الملكي الدستوري، اعتقاداً منها أن تلك الأنظمة فرَّخت "فصائل أصولية" عابرة للقارات هددت أمنها واستقرارها. الولايات المتحدة ستنسحب تدريجيًّا، بعد أن بات الشرق الأوسط جحيماً..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.