كلنا أو على الأقل معظمنا يذكر "فرج" فرد شرطة الداخلية القاسي المخيف في فيلم "الكرنك" والذي اغتصب البطلة "سعاد حسني" بدم بارد، كأفعى عصرت فريستها بمنتهى العنف والبرود، ثم بثت سمها في جسدها حتى أردتها قتيلة، دون أن يظهر أي أثر لذلك في عينيها الزجاجيتين الباردتين.
فرج هذا الكائن المرعب، دراكولا الذي فرد جناحيه الأسودين على سماء المحروسة في فترة زمنية أتت بعد ثورة وحراك سياسي وشعبي، فتبلدت سماء الحرية بغيوم قاتمة أثقلت الصدور وكتمت الأنفاس.
حتى استطاع السادات وبعده مبارك أن يسكن الوحش تابوته، ويخرجه وقتما شاء على من يشاء.
حتى نسينا فرج أو كدنا ننساه.
لكن مع ثورة شعبية جديدة وحراك سياسي جديد، خرج الوحش من تابوته ونفض الغبار عن عباءته السوداء، وطقطق عظام جناحيه المتيبسين وشحذ أنيابه وانطلق ليملأ معدته الفارغة، مالئاً الأجواء بنفس القتامة التي سبق أن اختبرها الآباء في حقبة فائتة.
فعاد فرج ذلك المرعب للظهور مرة أخرى في أحاديثنا الساخرة، إذا فكر أحدنا في انتقاد النظام الحاكم لأي سبب كان. وجد فرج يطبطب على كتفه طبطبة ظاهرها الرحمة وباطنها فيه العذاب، وسمع الكلمات التي تقطر سمًّا متقعوعاً بعسل السخرية أو لهيب التهديد "ربي عيالك" أو "خليك في حالك".
فـ"فرج" صار المعادل اللغوي لكلمة ثورة وكلمة حرية وكلمة فكر مختلف، ترى به الأشياء من منظور مخالف لما يراه الكرسي الحاكم.
فالكرسي الحاكم يلزمه زبانية خاصة إذا فقد المنطق وفقد الحجة.
وأهم ما يميز فرج أنه أحادي التفكير، فلا يصح لديه إلا الصحيح، والصحيح هو ما يمليه عليه سيده وأبوه الذي في القصر الجمهوري أيًّا من كان.
فالتفكير أصلاً جريمة عند فرج، لأنك مواطن إذا أنت مجرد متلقٍّ، وكما أن الماء لا يصعد لأعلى، فالتفكير أيضاً يجب أن يأتي من الأعلى، وبناءً عليه:
فرج يمنعك من التفكير لماذا انهارت السياحة في مصر؟ فالسياحة لم تنهر طبعاً بسبب ضرب السياح المكسيكيين بالطيران، ولا بسبب الفشل الأمني الذي تسبب في اختطاف الطائرة الروسية، ولا الفشل الأمني في التعامل مع ملابسات الحادث ولا الفشل السياسي في التعاطي مع الأزمة. ولا انهارت بسبب الحادث المأسوي لقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني بسبب التعذيب، بل لعل فرج يمصمص شفتيه ويضرب كفيه استغراباً ويتمتم "يعني على راسه ريشة؟! أكم آلاف ماتوا غيره.. كلب وراح.. إشمعنى دا؟".
فرج يمنعك من التفكير في أسباب منطقية لانهيار سعر العملة، وطبعاً ليس السبب الرئيسي كما صرح محافظ البنك المركزي الأسبق قبل الاستقالة "هشام رامز" يعود لسحب العملة الصعبة من السوق لتغطية أقساط تكاليف حفر تفريعة قناة السويس الجديدة.
وفرج أيضاً يمنع التفكير في الأسباب المنطقية للتغطية على انخفاض عوائد قناة السويس بالرغم من المبالغ المهولة التي صرفت على التوسعة وعلى جدوى حفر تفريعات جديدة في ظل تشكيك خبراء الاقتصاد من جدواها وفي ظل الكساد العالمي الذي كانت بوادره ظاهرة للعيان قبل الحفر.
فرج أيضاً يستنكر أن تفكر في كارثة سد النهضة الإثيوبي، بل لعله يضحك بعينيه الزجاجيتين ويهمس "يعني إنت هاتفهم أكتر من الكبار؟! بلا نيل بلا نيلة".
فرج قد يمسك بسلسلة التنويم المغناطيسي وهو يعرض عليك مشاريع قومية فنكوشية كمليون وحدة ومليون فدان ومغارة علي بابا. وإذا فكرت أن تسأل: منين يا فرج؟
جعلك تردد وراءه: "أنا مش قصير أوزعة.. أنا طويل وأهبل".
فرج يمنعك من التفكير في عزل الرجل الذي تجرأ وكشف ورقة التوت عن الفساد فبدت سوأته.. وبدلاً من أن نتعامل مع الفساد تعاملنا مع كاشفه بالعزل والنفي والتنكيل.
إن فرج يأبى بتاتا أن تفكر في التأمين السيئ البدائي لكمائن فلذات أكبادنا من الجنود التي تجعلهم لقمة سائغة ليد الإهارب، أو أن تفكر في حال أهلنا في سيناء وهم بين مطرقة قصف الطائرات التي لا تميز إرهابياً من طفل برئ وسندان الإرهاب الغاشم الذي يستحل دماءهم من الناحية الأخرى .
إن أعجب ما بشخصية فرج أننا صرنا نهدد بعضنا البعض به، ونضحك، ولا نستغرب من القبض على فلان أو اختفاء علان.. ففرج يعرف أكثر، ولا بد أن فلاناً أو علانً ارتكب جريمة الفكر.. أو فكر خارج صندوق فرج.
منك لله يا فرج، إنت مالكش إخوات مواطنين صغيرين؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.