تتغذى الحروب وتقتات النزاعات من جثث مواطنيها، ودموع أهاليها على فراق أحبتهم، وهجر مساكنهم، وهدم منازلهم، ومواطنهم، وضياع أحلامهم، وبحثهم عن الشفقة الدولية، وعن حق اللجوء إلى أرض -من المفروض أنها أرض الله- ينتظرون صدور قرار اللجوء المشروع أم حظره. فالحرب نارٌ وهم وقودها وحطبها.
يأتي قوم يتغنون بهذه الكوارث الإنسانية، والطبيعية، والاقتصادية، والسياسية. يسمونها "ثورات".. ثوراتٌ عن الحكام، عن القيود من أجل الحريات. وهي سلمية كما يزعمون.
تأخذ هذه الثورات مساراً مغايراً ومنحىً آخر، لتصبح ثوراتٍ ضد الحب، ضد الفرح، ضد الابتسامة، ضد الأهل، ضد الأحبة، ضد جلسات السمر.
نتيجة دماءٍ سائلة، ومساكن مهدمة، وأسر مشتتة ومفرقة، ووطن بلا مواطنٍ. تدوم طويلاً وطويلاً وإلى أجل غير مسمى.
حتى تنسى الشعوب معنى وطعم الحياة، ويعتادون حياة الذل والعذاب، والشتات والضياع. ويبدأ شبح تقسيم الوطن يلوح في الأفق، بين من يسمي نفسه "نظام" وآخر "معارض". وهنا تبدأ الكارثة العظمى، ففي المعارضة درجات وألوان. من الناعم إلى العنيف، مروراً بالمعتدل. وفيهم المتطرفون، يميناً أو يساراً، وآخرون وسطيون.
إلى حين يأتي يومٌ تشرق فيه الشمس – أيّما شروق- على أسياد العالم و صناع القرار. يجلسون حول طاولة مستديرة أو قد تكون مستطيلة حسب عدد الأطراف المتنازعة، يجلسون حول طاولة المفاوضات -التي طالما كرهتها- ويبدأون بتقاسم الخريطة والمصالح والخيرات، ويساومون الثورات بسعر بخسٍ ودراهم معدودة.
والشعوب المغلوب على أمرها، تنتظر وتترقب جنس المولود، طوله ووزنه ولون شعره وبشرته وعينيه. تبحث عن التفاصيل. كل هذا المخاض يحدث بين جدران رحم الشعب. الذي سيلد من الخاصرة رضيعاً لم يُفصل في شرعيته. ولم يَعترف الأب بأبوته وضاع الطفل بين الأنسال. عن الوطن والمواطن أتحدث.
وأخيراً تنتهي الأزمة -سمِّها كما شئت، ثورة أم حرب- على حساب الشعوب، على حساب العشاق، على حساب الأُسر، على حساب أحلام الأطفال ومشاريع الشباب وطموحاتهم..
تنتهي هذه المأساة أو الثورات -حتى لا تغضبوا- بمسمى اتفاقيات وتراضٍ بين الأطراف. دون أن يكون للشعوب رأي في شرطٍ من شروطها أو بندٍ من بنودها كأقل تقديرٍ. وكأنه خُلق ليلبس ما يُفصل له الخياط، ودون أن يراعي قياساته ومقاييسه.. وتحت شعار "المصالحة الوطنية أو الوئام الوطني". وكما سبق وقلت في إحدى منشوراتي: "لن تتطور الأمم وتزدهر حتى تتعلم أن تعاقب من ظلمها وسرقها وقتلها".
لنعود إلى إشكالية الموضوع: "الوطن للمواطن أم المواطن للوطن؟!". أَخُلِقَ الوطن من أجل المواطن؟ أم خلق المواطن من أجل الوطن؟ إذا كانت الفرضية القائلة بأن المواطن خلق من أجل الوطن صائبة وصحيحة، فلماذا خلق الله الأرض وخيراتها.. مواردها الطبيعية.. غطاءها النباتي؟ ألم يسخِّرها الله لخدمة الإنسان؟ أليس دور الإنسان الاستفادة منها والحفاظ عليها من أجل ضمان بقائه واستمراره بدل أن يكون عبداً لها؟!
ما معنى الوطن بلا أسرة؟ ما معنى الوطن بلا صديق؟ ما معنى الوطن بلا حبيب؟ ما معنى الوطن بلا مأوى؟ ما معنى الحقوق والحريات دون الحبيب والصديق، والأم والأب؟! ماذا تعني قطعة أرضٍ من دون حياة؟ ما طعم الحياة من دون أحبة؟ ما طعم الحياة من دون حياة؟ أليس الوطن مأوىً وأسرةً وحباً؟!
ألم تسمع هذه الشعوب وهذه الأمم عن الثورات الفكرية؟ عن الثورات الناعمة؟ ألم تسمع عن مالك بن نبي وكتابه الشهير "ولادة مجتمع"؟ أليس الشباب هم قادة الثورات؟ فكيف يؤمن مصير الأمم والمجتمعات لشباب يغذي عقله بأغاني "الواي واي"؟ كيف له أن يدبر مجتمعاً وهو غير قادرٍ على تدبير مصروف ليشتري سيجارة. ولا يزال يملأ طاولات قاعات الامتحان بطلاسم للغش من أجل النجاح؟
ألا يعلمون أن المجتمع المتعلم والمثقف يخشاه النظام السياسي ولا يستطيع استغباءه أو مساومته وابتزازه؟! وأنه لن يدع لنظرية المؤامرة نافذة يدخل إليها من خلالها النور؟
ألم يتفطنوا أنه لا فرق بين أمازيغي وعربي وكردي، إلا تلك المادة الرمادية الموجودة بالدماغ؟ ألم يتفطنوا بأن مصير الأمم ذات الطابع الجهوي هو الجحيم؟
بعد كل هذا، يعرّفون المُوَاطَنَةَ على أنها "مجرد حقوقٍ وواجبات" وثمنها غالٍ، أغلى من الروح والمال، والدم والأهل والأحبه، يعرفونها بأنها مقدسة وتحتاج للتضحية بالنفس والنفيس.
إن كان هذا هو حقاً تعريف "المواطنة"، فعذراً أنا أتبرأ منها. أفضل أن أكون إنساناً على أن أكون مواطن. ألا يجدر بنا التساؤول والتمرد عن هذه المسلمات المتناقضة البالية؟ أننتمي للأرض أم للمجتمع؟ أتستحق منا صفة "المواطنة" كل هذا العناء؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.