الشرق الأوسط … من العالمية الى الإقليمية

أدركت واشنطن أن الاستمرار بسياسة الهيمنة المباشرة على المنطقة لم تعد ذا نفع من ناحية إستراتيجية، فالاستنزاف الدائم لمواردها البشرية والاقتصادية والعسكرية في حربي العراق وأفغانستان أرهقها اقتصادياً، وشتت قواها في أقاليم مختلفة، في إطار سعيها لمواجهة طموحات دول أخرى مثل الصين.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/28 الساعة 03:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/28 الساعة 03:25 بتوقيت غرينتش

خَضعت منطقة الشرق الأوسط ودوَلُها الرئيسيّة لهيمنة قوى النظام الدولي خلال القرن العشرين. فشهدت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تنافساً كبيراً على النفوذ في المنطقة بين المحورين الدوليين، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، لما تمتلكه هذه المنطقة من قيمة إستراتيجية بسبب الموقع الجغراقي والمخزون الهائل من النفط والغاز. واضطُرَّت دول المنطقة إلى الدخول في محور أحد القطبين للمحافظة على مصالحها، وفَرض حالة توزان مع قوى الإقليم الأخرى.

كانت إستراتيجية واشنطن تعتمد أساساً على "مبدأ أيزنهاور" نسبة إلى الرئيس "دوايت أيزنهاور" (1890-1969) الذي عبّر فيه عن التزام بلاده التام بحماية أمن دول المنطقة وتقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية المباشرة ومنع أية عدوان محتمل عليها.

مع انتهاء الحرب الباردة (1990م)، اتجهت الولايات المتحدة إلى الهيمنة وفرض نفسها على الإقليم بالقوة. فتبنّت سياسة التدخل المباشر، الذي كان من أبرز نتائجه، حرب الخليج الثانية (1991م)، واحتلال العراق وأفغانستان في إطار الحرب على الإرهاب (2001-2005)م. لتتحول منطقة الخليج الإستراتيجية الغنية بالنفظ مركزاً دوليًّا للقواعد العسكرية الأميركية ولنشاطها السياسي والاقتصادي.

تجاهَلَ صانعو السياسة في واشنطن، ما عبَّر عنه خبراء العلاقات الدولية أمثال "هنري كيسنجر"، بشأن ما ستفرضه انتهاء حالة التوازن الدولي من تحولات في سياسة الدول المتوسطة باتجاه تحقيق مصالحها القومية. ففي الشرق الأوسط وجدت دول المنطقة نفسها غير مضطرة للاستمرار بالتبعية الكاملة لواشنطن، بل باتت سياساتُها تتجه نحو تحقيق مصالحها القومية التي حددتها نُخَبها الحاكمة.

الأمر الذي رفع مستوى التنافس بين هذه القوى الرئيسية، لا سيّما وقد امتلكت مصادر قوة إضافية جعلتها قادرة أن تُصبح محوراً جاذباً لدول وتجمعات أخرى في الإقليم، فأصبحت تتمتع سياساتها بقدر أكبر من الاستقلالية عن سياسات قوى النظام الدولي.

استفادت دول الخليج والسعودية تحديداً من ارتفاع أسعار النفط، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لتُراكم ثروة هائلة، مكّنتها من تحقيق الازدهار الاقتصادي داخلياً. كما استطاعت أن تمتلك استثمارات كبيرة في الغرب والولايات المتحدة، خصوصاً في منشآت تَمس الأمن القومي وفي بعض الصناعات الحسّاسة. إضافة إلى استخدام السعودية عوائدها النفطية في اجتذاب ولاء دول وجماعات وحركات سياسية في المنطقة، عدا عن كونها تشكّل مرجعاً إسلامياً لمعظم دول العالم الإسلامي.

أما إيران فهي من أوائل الدول إدراكاً لطبيعة المتغيرات الدولية، فاستطاعت من خلال التحكم بالكثير من الجماعات ذات الطابع الطائفي أو العرقي من تشكيل محوراً إقليمياً رئيسياً، والسيطرة على القرار السياسي في عواصم عربية مثل بغداد، ودمشق. ولم تكن تركيا ذات الموقع الإستراتيجي بين الشرق والغرب أقل حظاً، فقد أصبحت من بين الدول العشرين الأقوى اقتصادياً على مستوى العالم ومركزاً للنشاط الاقتصادي والسياحي، وسّعت أيضاً من دائرة نشاطها السياسي برعايتها لحركات سياسية وقوى أخرى في ظل حكومتها ذات التوجه الإسلامي.

أدركت واشنطن أن الاستمرار بسياسة الهيمنة المباشرة على المنطقة لم تعد ذا نفع من ناحية إستراتيجية، فالاستنزاف الدائم لمواردها البشرية والاقتصادية والعسكرية في حربي العراق وأفغانستان أرهقها اقتصادياً، وشتت قواها في أقاليم مختلفة، في إطار سعيها لمواجهة طموحات دول أخرى مثل الصين.

لقد شكّل انسحاب الولايات المتحدة من العراق سنة 2006م أبرز ملامح سياستها الجديدة في الشرق الأوسط، والمرتكزة على عدم الانخراط في حروب مباشرة حتى لو كانت في إطار الدفاع عن أصدقائها، ليشّكل ذلك أحد أوجه تضارب المصالح مع حلفائها كالسعودية وتركيا، وليوّسع من دائرة المنافسة هؤلاء الحلفاء ومنافسيهم في المنطقة. فمع اندلاع الثورات العربية تخّلت واشنطن عن النُظم الحاكمة في مصر واليمن وتونس.

كما تجاهلت مطالب الرياض وأنقرة المتكررة بشأن تسهيل فرص القضاء على النظام السوري. وكانت مفاجأتها البارزة في التقارب مع إيران والتوصل إلى تفاهم بشأن ملفها النووي، لتتمكن بذلك طهران من تعزيز نفوذها الإقليمي والحصول على قبول دولي. بالمقابل تفاقمت حالة عدم الثقة بين واشنطن وحلفائها في المنطقة، فالسعودية متخوفة من استمرار تعاظم النفوذ الإيراني في سوريا واليمن، وتركيا تسعى لإنهاء الملف السوري وفق مصالحها الإستراتيجية في ظل خطر الجماعات الكردية وتنظيم الدولة.

أما واشنطن فبدت مستفيدة من التنافس بين قوى المنطقة، الذي ازداد حدةً مع تدخل موسكو العسكري في سوريا، في ظل انخفاض أسعار النفط واستنزاف دول المنطقة عسكرياً واقتصادياً وبشرياً، عدا عن ارتفاع الطلب على شراء الأسلحة الأميركية.

من الواضح أن هامش تأثير الولايات المتحدة على سياسات دول الشرق الأوسط قد تراجع بعد الحرب الباردة، في ظل إعادة ترشيد قواها وتركيزها على مناطق أخرى. لتشّكل الدول الرئيسية في المنطقة (إيران والسعودية وتركيا) المحاور التي تتصارع فيما بينها لتحقيق، أكبر قدر من الربح في ملفات سوريا والعراق واليمن.

وما التحالف الإسلامي الجديد الذي تشّكل بقيادة السعودية، والتقارب الحاصل بين الرياض وأنقرة، إلّا واقع سياسي نحو مزيد من التنافس مع المحور الإيراني العراقي السوري على زعامة المنطقة. أما قوى النظام الدولي فلا يهمها من يسيطر بقدر سعيها إلى الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية من دون التورط المباشر في المنطقة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد