لا ترهقهم شفقة

عندما كنتُ جنيناً اكتشفتْ أمي أنّها ستنجبُ طفلاً مصاباً بمتلازمة داون، صدّع هذا الخبرُ قلبها فأضحتْ أسيرة لخيارينِ أحلاهما مرٌّ، وهما: إما أن تستمرَ في حملها وتقبلَ بما كتبَ لها الله، وإمّا أن تتخلى عن حلمِ أمومتها وتجهضني، ولطالما كانَ الخيارُ الثاني هو المفضلُ لدى والدي.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/27 الساعة 04:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/27 الساعة 04:04 بتوقيت غرينتش

هي قصّة يودّ ذوو أبطالها في كثير من الأحيان أن يداروها عن أعين الناس، لكن بعد عدد من المشاهدات المحبطة والمشجعة، وعن لسانهم أسمح لنفسي أن أكتب التالي علّ ذلك يوقظ غفوتنا إزاء من هم بشر.. مثلنا تماماً:

يُقالُ لا تقصصْ وجعك لكنّي سأبوحُ بوجعي، سأتقاسمهُ مع منْ لهم قلوبٌ تتلقفُ الأحزانَ وتضمها لتضمدها، سأخبركمْ جزءاً من حكايتي التي هي طيرٌ من سربٍ تُغَضُّ عنه الأبصار.

عندما كنتُ جنيناً اكتشفتْ أمي أنّها ستنجبُ طفلاً مصاباً بمتلازمة داون، صدّع هذا الخبرُ قلبها فأضحتْ أسيرة لخيارينِ أحلاهما مرٌّ، وهما: إما أن تستمرَ في حملها وتقبلَ بما كتبَ لها الله، وإمّا أن تتخلى عن حلمِ أمومتها وتجهضني، ولطالما كانَ الخيارُ الثاني هو المفضلُ لدى والدي، فإنَّ والدتي حسمَت أمرها وأصرتْ على استقبالي في هذهِ الحياة وبدأت تستعدُّ نفسياً لتحملِ هذه المسؤوليةِ أمامَ أبي في المقام الأول وأمامَ كل من عارضها، بل ولتواجهَ مجتمعاً يرفض غالباً تقبلَّ حالات كحالتي.

أتيتُ إلى الدنيا فرقصت عيونُ أمي فرحاً وابتهلتْ إلى الله أن يجعلَ قلبها مستقراً للصبر الذي لازمها بعد ذلك، لم تأبه في البدايةِ لكل ما قيل وأدارت ظهرها لهمساتِ المتسائلين إن كنت سأبقى على هذهِ الحال أم أني سأتغيرُ مع الزمن.

ظلتِ الأيامٌ جميلةً إلى أن أتى اليومُ الذي بلغتُ فيه السادسةَ من عمري، وكان عليّ حينها أن أباشرَ التعلم، دأبت والدتي أن تلحقني بأحدِ الصفوفِ المدرسيةِ إلا أنّ كلَّ محاولاتها باءت بالفشل، فلم تقبلْ أيّ مدرسةٍ أن تمنَّ عليّ بمقعدٍ فيها بسببِ "وضعي الخاص".

في ذلكَ الوقتِ بدأت أمي بالبحثِ عن مراكزَ متخصصةٍ لتأهيلِ المصابين بمتلازمةِ داون، وما إن وصلنا إلى مدخلِ أحدِ هذه المركز حتى استبشرتْ وجوهُ العاملين، وكانت الغالبيةُ من الإناث ذواتِ الابتساماتِ اللطيفةِ والكلماتِ المحببةِ لنفسِ الأطفال، بينما كانتْ تبدأُ أمي بالاستفسارِ عن كيفيةِ الالتحاقِ والتعليمِ ولطف المعاملةِ كانت إحدى المسؤولاتِ تمسحُ على رأسي بكلِّ حنان، فشعرتُ بأنّي سأكونُ بينَ مجموعةٍ من الأمهاتِ الجميلاتِ الروح، وكنتُ أظنُّ.. وخابَ ظنّي.

طلبتِ الإدارةُ من والدتي أن أنتقلَ للسكنِ في المركز، وبعدَ الكلماتِ التي تحتضنُ الوداعةَ والحب بين جنباتها اطمأنّ قلبها فأعدّت لي حقيبتي وأخذتني إلى هناك، وطُلِبَ منها ألا تأتي قبلَ مرورِ شهرٍ لكي أعتادَ أن أكونَ لوحدي هنا.

وهنا تأتي لحظةٌ اقتلاع الأقنعةِ من الوجوه، ففي اللحظةِ التي غادرت فيها والدتي المركز استبدلتِ العاملاتُ بالابتسامةَ الوجوم، وبالكلامَ الهادئ الصراخ، وبالطلبَ الرقيقَ الضّربَ، رأيتُ كلَّ ذلك وخالَ لي أنّي لنْ أتعرضَ لهذا إطلاقاً، لكنّي كنتُ طفلاً من كثرٍ يمارسُ عليهم عنفٌ لفظيٌّ وجسدي، كنت أتلعثمُ بالكلام وأتحدثُ ببطءٍ شديد، فيكونُ التوبيخ والضرب هو جزائي. شعرتُ بأنني في معتقلٍ في إحدى الدول المستبدة لا في مركزٍ متخصصٍ للعناية بأطفال محتاجينِ لأضعافِ العناية التي يحتاجها أترابهم.

كنّا من مختلف الحالاتِ نجلسُ في فصولٍ دراسيةٍ دونَ مراعاةٍ لاختلافنا، وذات مرةٍ رأيتُ صديقاً لي مصاباً بالتوحدِ يُسحَلُ على الأرض كمجرمٍ وقع في أيدي أهالي قريةٍ غاضبة، وعندما شاهدْتُهُ شرعتُ بالبكاءِ والصراخِ فما كانَ منهنَّ إلا أن قمنَ بضربي بحزامٍ جلدي تركوا أثره تذكاراً على ظهري إلى أن جاءت والدتي ورأت ما رأت، فانهارت عليهم بأقسى ألفاظٍ تقولها أمٌّ ترى ولدها في هذه الحال، كان الغضبُ يتطايرُ من عينيها، بدأت تضمني وتبكي وتؤنبُ نفسها كيف تركتني في ذلكَ المكان الأشبهِ بالزنزانة، حملتني ثم ركضتْ بي مبتعدةً عن لعناتِ الخوف وفي قرارةِ نفسها أدركتْ أنّ الهربَ من عيونِ المجتمع ليسَ حلاً، وأنّ مهمتها الأصعب والأجمل قد بدأت، فشرعتْ في القراءةِ المكثفةِ عن حالتي وعمّا تسطيع فعله لتحسين مهاراتي وخلقِ أخرى، واستعانتْ بطبيبٍ نفسيٍّ لأتجاوزَ ما حلّ بي، ثمّ ما لبثت هي أن رأتْ تقدماً ملحوظاً، وما لبثتُ أنا إلا أن عدتُ للضحكِ والسعادة، ملتحفاً حضنَ أمي، المكان الأدفأ في العالم.

أخذتُ ألاحظُ تقبلَ والدي لحالتي أكثر من السابق، فأمسى يصطحبني للأماكنِ العامّةِ بعدَ أن كانَ الخجلُ يسرقُ من أبوّته أجملَ اللحظات، فصرنا نذهب معاً للمعارضِ الفنيةِ بعدَ اكتشافِ موهبتي في الرسم، إلى أن برعتُ في ذلك المجالِ كطفلٍ سابقٍ لسنّه، وأقمتُ معرضي الأول في سنِّ العاشرة.

لم يأتِ الإنجازُ إلا بالاهتمام، هذه حالتي ولكنّ كثر أولئك الذين بقوا رهنَ قلقِ عائلاتهم من نظرةِ الناس، فإن التقيتَ أحدنا صدفةً فلا تلقِ لنا بنظرةِ شفقةٍ، ولا بكلمةٍ تحاولُ فيها تخفيفَ وطأةِ ما رأيت، نحن كأنت.. بشرٌ لنا أحلامنا وإن لم تفهمها لا تدعْ عينك أو لسانكَ سهماً مسلطاً على قلوبِ أبوينا، فانظرْ لنا كأندادٍ قد تُصدَم بنا ونغلبكَ في أحدِ المجالات، أو امضِ في طريقكَ مغمداً سيفَ همساتكَ القاتلة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد