هي ثورة واحدة، بدأت في تونس، وانفجرت في مصر، ثم امتدت إلى ليبيا وسوريا واليمن، وأثرت في جيل كامل في سائر الدول العربية بلا استثناء يكاد يذكر.
سَمَّاها من سَمَّاها بالربيع العربي، والاسم لا يعنيني قدر ما يعنيني المُسَمَّى، والمُسَمَّى واضح، حالة ثورية تتخذ من التغيير السلمي منهجا، وتتفق على مطالب إنسانية لا فكرية، مطالب يتفق عليها البشر من حيث هم بشر، لا فرق بين أفكارهم ومعتقداتهم وأعراقهم وأجناسهم.
هذه الثورات وَحَّدت الناس في هذه البقعة التعيسة من الكرة الأرضية، وَحَّدَتْهُم على المشترك الإنساني الذي يضمن الحياة الكريمة، لذلك هتف الناس في سائر هذه الثورات (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية).
لم يهتفوا باسم دين، ولا طائفة، ولا مذهب فكري أيديولوجي، ولا زعيم، ولا عشيرة، ولا أي شيء مما يفرق الناس، بل هتفوا لمطالب يُجْمِعُ عليها المؤمن والملحد، والمسلم والمسيحي، والسني والشيعي، والفقير والغني، والرجل والمرأة، واليساري والليبرالي، والكبير والصغير … إنها مطالب تتجاوز غالبية الخلافات والاختلافات، حيث إنها تتعلق بأساس وجود الإنسان، ولا عجب في ذلك … فنحن نعيش في منطقة لا اعتبار فيها للإنسان أصلا.
حين أرادت الثورات المضادة أن تجهض هذا الربيع عملت منذ اليوم الأول على تغيير الصبغة الإنسانية الجامعة لهذه الثورات، وإحلال المطالبات التي يختلف حولها الناس، سواء كانت مظالم فئوية، أو طموحات أيديولوجية، أو هويات دينية، ومن هنا … بدأت أولى نجاحات الثورة المضادة، أعني من لحظة تفريق الناس، وتغيير نظرتهم إلى أنفسهم، فبعد أن كان كل واحد من هؤلاء ينظر إلى نفسه كإنسان قبل كل شيء، أصبح ينظر لنفسه على أنه صاحب فكرة أو دين أو مذهب قبل أن يكون إنسانا، وهذا خلل … فنحن بشر أولا وقبل أي شيء.
إن هذه الثورة العربية الممتدة العظيمة لم تقم لكي تنصر فصيلا على فصيل، ولا لكي تقوي أغلبية ضد أقلية، ولا لتُظْهِرَ فئة على فئة … بل من أجل أن يتساوى الناس جميعا في الحقوق والواجبات، وهذا أمر لا جدال فيه، وكان واضحا كل الوضوح منذ اللحظات الأولى لانطلاق هذا الربيع.
***
كيف بدأ تعثر هذه الثورة؟
حين ظن كل من شارك في الثورة أن من واجبه أن ينتصر لبرنامجه السياسي (المختلف عليه) قبل أن يحقق المشترك الإنساني الذي أصبح يمثل عقدا اجتماعيا جديدا انتفض على أساسه الشعب، فاستشهد من استشهد، وأصيب من أصيب، وابتلي من ابتلي.
حين قال واحد: أنا مسلم أو مسيحي، وقال آخر : أنا سني أو شيعي، وقال ثالث : أنا شيوعي أو ليبرالي … بدأ الفشل.
هنا سيُطرح سؤال منطقي، هل معنى الثورة العربية أن ألغي إسلامي أو مسيحيتي؟ أو انتمائي للمذهب السني أو الشيعي؟ أو إيماني بالشيوعية أو الليبرالية؟ الخ
والإجابة … بالطبع لا !
لا أحد يطالب أحدا بإلغاء قناعاته، ولا بالكفر بما يؤمن به، ولكن غاية ما في الأمر أننا قد تعاقدنا على تحقيق المطالب الإنسانية المشتركة أولا، تلك المطالب التي نستطيع بها أن نُوَحِّدَ الصف الثوري، وأن نضمن اصطفاف الغالبية العظمى من الشعوب خلف الثورة، وبها نضمن هزيمة الدولة العميقة، وهزيمة التجمعات الدولية والإقليمية التي تمول وتدعم الثورات المضادة بالمال والسلاح والعلاقات الدبلوماسية.
***
إذا استحضرنا خلافاتنا سنُهزم … وهذا ما حدث بالضبط في هذه الجولة الانقلابية!
لقد بدأ كل فصيل بعرض بضاعته على أساس أن مشروعه (هو الحل)، والحقيقة أن كل ذلك كان جدلا خارج الموضوع، وكان انشغالا عن المتن بالهوامش، وكان غفلة عن الفخ الكبير الذي نصبه أعداء الثورة لكل من شارك فيها.
للأسف الشديد ما زال هناك من بيننا من يرى أن الحل في فكرته هو، وأن الخلاص في فصيله هو، وأن الانتصار بحزبه هو، وأن الآخرين عبء، وأنه لا يمكن التعايش بين سائر المكونات التي تثري المجتمعات العربية.
هناك من يرى أن السنة أغلبية، وأن الشيعة أقلية، ولا بأس بإبادة تلك الأقلية !
ولست أدري ما الفارق بين تلك الأفكار وبين فكرة "صربيا العظمى" التي أباد بها الصِّرْبُ عشرات الآلاف من المسلمين في دول البلقان !؟
هناك من يرى أن الشعب المصري ليبرالي، وأن الإخوان أقلية، وبالتالي لا بأس بإبادتهم أيضا.
ولست أرى أي فارق بين من يدعو لذلك وبين التطهير العرقي الذي قام به هتلر وموسوليني في أوائل القرن الماضي.
وهناك عشرات الأفكار الاستئصالية التي ينتشر دخانها في الجو فيسمم الأجواء، وبعضنا يروج هذه الأفكار دون أن يشعر، ومن يدري … لعله يروجها وهو يشعر.
إن أساس فكرة الثورة العربية (الربيع العربي) تكمن في أن المشترك بين البشر كبير، ويضمن لهم القدرة على التعايش في وئام، وانتصار الثورة المضادة اليوم لا علاج له سوى بالعودة إلى العقد الاجتماعي الذي نجح به الثوار في الأيام الأولى من الثورة، أعني بالاصطفاف على أساس المشترك الإنساني الجامع، والابتعاد عن الأيديولوجيا، والتحيز المذهبي السطحي الذي أدى إلى هزيمتنا.
يقول الزعيم الهندي العظيم غاندي: (كلما قام شعب الهند بالاتحاد ضد الاستعمار الإنجليزي يقوم الإنجليز بذبح بقرة ورميها بالطريق بين الهندوس والمسلمين لكي ينشغلوا بالصراع الطائفي، ويتركوا الاستعمار).
يبدو أن كثيرا من الثوار اليوم قد قبلوا أن يقوموا بدور البقرة !
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.