فأرسلوا لنا العاهرة

نحن ننظر أحياناً إلى الدول المتقدمة على أنها طوق نجاة مما نحن فيه من فقر وقلة في كل شيء، مقال مثل الذي تفضلت به يكشف وجهاً آخر لم نكن نتوقعه أو نعتقد أنه موجود في الغرب

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/26 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/26 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش

لاحظت مؤخراً أنَّ هناك جزءاً مهماً من الثقافة الغربية -المُتمثِّل بالنقد والمعارضة- لا يمكن لمهاجري العالم الثالث التأقلم معه وقبوله بسهولة، فليس هيناً على تلك النفوس المرهقة والتي عانت الأمرين في بلادها الظالمة والقامعة للحريات، أن تنسجم بسهولة مع الأنظمة المُتحرِّرة والمُنفتحة والتي تقبل الاستماع للنقد والآراء المعارضة، فتلك الممارسات غالباً ما يكون هدفها تسليط الضوء على السلبيات الخفية التي غالباً لا يلتفت إليها العامة بهدف لفت الانتباه وإصلاح ما يمكن إصلاحه ضمن نظام ديمقراطي يحترم الحقائق والأرقام، ويحترم النقَّاد وأقلام مواطنيه، وهذا نوع متقدم من ديمقراطيات العالم الأول الذي أفرز مجتمعات راقية إلى أقصى درجة، وعليه بنيت فكرة البرلمان الغربي.. حزب حاكم وآخر معارض ينتقد الحزب الحاكم ويصحح مساره ليستفيد الجميع، فوظيفة الشعب ليست التطبيل للحاكم، والحاكم مسؤول بكل ما تعني كلمة المسؤولية من معنى أمام ذلك الشعب.

انكشف لي هذا الأمر عندما بدأت في الكتابة عن كندا وعن الحياة فيها من باب التوعية لما هو حقيقي، وبلغ ذروته عندما كتبت مقال الأسبوع الماضي (طريق الآلام في كندا) والذي أثَّر سلباً في نفوس الحالمين، فَمِنَ الكَلِمِ مَا كَلِم، فقد أصبح العربُ يتعلقون بقشة الهجرة إلى جنة الغرب بسبب تفاقم أزمات الشرق، ولا يحتملون كَلِم الكلمات التي تكشف حقيقة الوضع في الغرب والهجرة وآلامها، والأسباب معلومة ومفهومة، فهم يريدون الخلاص بأي شكل من الأشكال، من خلال التعلُّق بأي طوق نجاة ينتشلهم مما هم فيه، قال لي أحد القرَّاء: (نحن ننظر أحياناً إلى الدول المتقدمة على أنها طوق نجاة مما نحن فيه من فقر وقلة في كل شيء، مقال مثل الذي تفضلت به يكشف وجهاً آخر لم نكن نتوقعه أو نعتقد أنه موجود في الغرب) وتساءل: (ما ذنبي أن أكون عربياً فيضيع عمري هباءً؟).

السؤال المهم: هل فعلاً الدول الغربية طوق نجاة للعرب؟

يقول النائب البريطاني "جورج غالوي" الشهير بمناصرته للقضايا العربية في برنامج بُثَّ من العاصمة اللبنانية بيروت في الدقيقة (٢:٤٠):

(هناك 650 نائباً في البرلمان الذي أجلس فيه، إن سألتهم وحداً تلو الآخر أن يُحدِّد الفرق بين السُنَّة والشيعة، فلن يتمكن أي أحد منهم من القيام بذلك، لأنَّ هؤلاء النواب لا يأبهون إن كنتم سُنَّة أم شيعة، ولا يأبهون إن كنتم تُصلُّون أو تصومون أو تؤدون مناسك الحج، كما لا يأبهون بالإسلام ولا بالدين، ولكنهم يأبهون فقط إلى تقسيمكم، إنَّ كل ما يهمُّهم هو جعلكم تقاتلون بعضكم بعضاً، فما دمتم منشغلين بقتال فيما بينكم.. لن تقاتلوهم ولن تقاتلوا إسرائيل!)

تعلُّقنا -غير المُبرَّر- بالغرب جعلنا نفتح لهم أراضينا لاحتلالها ونهبها ونحن راضون بتلك الجرائم كالبلهاء، لأننا في داخلنا قد سلَّمنا بأنَّ ذلك هو السبيل الوحيد لجلب النهضة، وأصبح العرب يستجدون الغرب للتدخل في بلدانهم كي يُنقذوها من براثن التخلف والضياع، لينقلوها من خراب إلى خراب إلى أن يصلوا بأهلها إلى ما قبل العصر الحجري، ووقتها.. لن تصلح حتى للكلاب للعيش فيها!

قد تكون كلمات غالوي الذهبية آخر ما يود العرب سماعه عن حقيقة الغرب العارية، والتي تُلخِّص فكرة مقال اليوم بكلمات بسيطة لكنها عميقة جداً، فما يقوم به النوَّاب الإنجليز وغيرهم في البرلمانات الغربية هو ما يُعرف بمبدأ (عكِّر الماء تصطاد السمك)، بمعنى أنه لو تعكَّر ماء البحر وتغيَّر لونه، سيفقد السمك بصره وبصيرته وتضطرب حركته مما يجعله فريسة سهلة لصيده، وهذا بالضبط ما فعله كل مَن تكالب علينا، أرسلوا لنا العاهرة التي عكَّرت علاقتنا بربنا وبعضنا بعضاً، شوَّهت مبادئنا حتى فقدنا بصرنا وبصيرتنا، فبتنا أكثر أمم الأرض تمزقاً وتشرذماً وعداءً لبعضنا بعضاً.

أسوأ ما في تلك العاهرة أنه يطأها الجميع من دون تفكير، سواء كانوا من علية القوم أو أسفلهم، قوميين أو وطنيين، سياسيين أو رجال دين، عامة أو مثقفين، الكل يطأها ويركب موجتها، وفي نفس الوقت ينسب لها الشرف وأنها ستُمهِّد الصراط المستقيم للتغيير المنشود من أجل بناء دولة العصر المتحضرة، والتي سيختفي معها الفقر والبطالة والفُرقة والفساد، والتاريخ أثبت أنَّ العاهرات لا يُقمن دولاً ولا يصنعن الحضارات.

جاءتنا العاهرة بأقذر لباس، ففتحنا لها بيوتنا حتى لوَّثت عقولنا، فمرة بثوب الثورة، ومرة بثوب الطائفية، ومرة بثوب إقامة الخلافة، وكثيراً ما اجتمعت كلها في ثوب واحد ووقت واحد ومكان واحد، لتفرِّق الجمع وتنشر القمع، والجميع يُصر على أنَّ نيَّاتهم كانت -وما زالت- حسنة من أجل الإصلاح وإرساء مقومات الديمقراطية، فلم يكن قصدهم بيع فلسطين، ولا تفتيت لبنان، ولا ضياع العراق، ولا تجزئة السودان، ولا تقسيم سوريا، ولا تمزيق اليمن وليبيا والصومال.. إلخ، فقط كانوا يبتغون الخير من هذه العاهرة، واليوم لا يمكن تخيُّل العالم الثالث من دون الطائفية أو العنصرية أو البلبلات أو الانشقاقات في داخل البلد الواحد والبيت الواحد.

علمتني الحياة أنَّ اللحظة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يلجأ فيها إلى الدين خارج بيته، هي فقط لحظة النسب والمصاهرة، خصوصاً إذا كان الأمر يخص تزويج أنثى، لأنَّ الزواج نوع من أنواع العبادة التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه، وعدا عن ذلك، لا يوجد مُبرِّر للتمترس بالدين واستخدامه لأنه سيصبح هوى، وذلك الهوى سيَفسُد سريعاً، ويلوث الأجواء بكل ما هو سيئ، وستبقى تلك العاهرة تسعى في أوطاننا فساداً وتمزيقاً ما دمنا نحلم بطوق النجاة الغربي الذي لن يعود علينا بأي خير.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد