يُحكى أنَّ | عفاريت الجنوب

هي المرة الأولى التي ألتقي فيها عفريتًا، كان ذلك مساء اليوم الذي ذهبتُ فيه مع نجيب إلى حيث يعيش الوثنيون في إحدى المناطق بجنوب السودان، صحراء قاحلة، وخيام بالية، ومجموعة من الرجال والنسوة والأطفال يرتدون أسمالًا وتصدر من خيامهم روائح من الصعب تحملها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/25 الساعة 10:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/25 الساعة 10:00 بتوقيت غرينتش

هي المرة الأولى التي ألتقي فيها عفريتًا، كان ذلك مساء اليوم الذي ذهبتُ فيه مع نجيب إلى حيث يعيش الوثنيون في إحدى المناطق بجنوب السودان، صحراء قاحلة، وخيام بالية، ومجموعة من الرجال والنسوة والأطفال يرتدون أسمالًا وتصدر من خيامهم روائح من الصعب تحملها.

كان الوثنيون ورقة في حرب جنوب السودان، يستميلهم المعارضون بالمال فيهاجمون القوات الحكومية، وتستميلهم الحكومة ببعض الامتيازات فيهاجمون قوات المعارضة، بعد لقائنا معهم كان علينا أن نعود إلى الثكنة التي استضافنا الجيش بها؛ ضمن الجنود الذين يعملون على حماية بئر للبترول.

عندما كنا لديهم، شرح لهم مرافقنا بلغتهم الغرض من مهمتنا كصحفيَّيْن يقومان بتغطية الحرب في جنوب السودان، في ذاك الحين من عام سبعة وتسعين، ودفع لهم ما يدفعهم للحديث، فانطلقوا يمارسون صلواتهم ويطلقون البخور ويتمتمون بالعبارات.

نجيب المهذب وعلى غير عادته تمامًا لم يتمكن وهو يسجل هذه الطقوس من كتم ضحكاته الساخرة، بالنسبة لي كان الأمر مخيفًا، مستوعب أنا لاختلاف الناس وتناقض معتقداتهم، لكن ما كان يجري أمام عينيّ كان خارج هذا الإطار، لقد بدا لي مزيجاً من السحر والشعوذة، فضلاً عن الكفر البواح، لذا رحت أتمتم بالشهادتين، وكأني أقول "أنا مش معاهم والله العظيم".

مشهد الشمس وهي تغرب حيث كنا كان كفيلًا بإدخال الطمأنينة إلى نفوسنا، لا أعرف لماذا تبدو هنا كبيرة إلى هذا الحد؟ كانت كأنها أكبر من كل هذه الصحراء، بعد أن أنهينا مهمتنا تحلقنا مع الجنود نتحدث ونحتسي الشاي قتلًا للوقت، وفي انتظار أن تخرج علينا الشمس مرة أخرى، لنعود للعمل، فلما بلغ التعب منا مداه توجهنا إلى حيث مُنحنا سريرين في الكارافان، الذي كانوا يعتبرونه بين هذه الخيام العسكرية بمثابة فندق خمس نجوم.

سرحت قليلًا في الرحلة الطويلة التي قطعناها لنصل إلى هنا في يومين، ركبنا الطائرة، ثم سيارة قطعت طريقها طويلًا، إلى أن توقفنا عند بلدة لا أذكر اسمها عندما وصلنا ليلًا، كان يتعين علينا أن نذهب إلى الأمن لنقول لهم من نحن وماذا نفعل، فعل مرافقنا المبتعث من الوزارة ذلك، انتظرناه طويلًا ونحن ننام على مقاعدنا حتى أنهى الإجراءات، سألته "ما هي المشكلة؟ نحن لن نصور هنا"، أجاب "عليك أن تتوقع دائمًا أن يخرج لك من كل زاوية رجل أمن يسأل ويدقق ويستجوب ويمنع إذا لزم الأمر، إنهم مثل العفاريت يخرجون لك من كل مكان"، ضحكنا وتوجهنا إلى ما قالوا لنا إنه فندق لنقضي ليلتنا فيه.

***

في الصباح أرسلوا معنا مرافقًا إضافيًا كشرط لاستكمال الرحلة، حُشرنا في سيارتنا التي انطلقت ساعات طويلة حتى انتهى من تحتها الطريق المرصوف، ثم مضينا في قلب الصحراء، لم يكن الطريق الذي يسلكه السائق مدكوكًا، ولم يكن هناك أي مَعْلم يمكن أن يستدل به، سألت السائق، فضحك وقال "إذا متُّ الآن فسوف تموتون بعدي جوعًا وعطشًا في هذه الصحراء القاحلة"، مزاحه أدخل الرعب إلى قلوبنا لأنه حقيقة.

حدثنا عن السائقين الذين يعتمدون على حدسهم ودرايتهم بالطرق الصحراوية، فإذا ما خذلتهم هلكوا، ثم أختتم بذكر قصة سائق الشاحنة الذي عُثر عليه في مقطورته ميتًا، وقد كتب رسالة إلى أهله يقول فيها إنه ضل الطريق وإنه هالك لا محالة، وسجل وصيته.

صمتنا تقريبًا بعدها لساعات، وكان كلٌّ منا يفكر ماذا يجب أن يكتب لأهله، قبيل الغروب بشرنا السائق أننا أوشكنا على الوصول، نظرت إلى السماء فإذا مجموعة ضخمة من الطيور تسبح حرة طليقة دون مرافقين رسميين، إنها تكاد تكون ملتصقة ببعضها، وكأنها طائر واحد، تحوم يمنة ويسرة في إيقاع ساحر، "سبحان الله" هو ما قلناه كلنا.

ببطء شديد بدأ السائق يقود سيارتنا ونحن نقترب من المعسكر، تجنبًا لإطلاق النار علينا، فإذا ما وصلنا مشارفه أوقف سيارتنا ونزل منها مرافقانا إلى داخل المعسكر، ليعودا بعد قليل وتفتح البوابات لنا، ويستقبلنا قائد الوحدة، الذي أصر على أن يجتمع بنا جميعا في إحدى الخيام، ثم ألقى خطبة عظيمة فينا، شكرته، وعلمت لاحقًا أنه غضب أنني لم أرد الخطبة بخطبة.

رغم ذلك كان الجميع لطيفًا باستثناء ضابط الأمن الذي بادلنا العداء من اللحظة الأولى، وقد تقدمنا إليه في صباح اليوم التالي بقائمة طلباتنا، أي الأمور التي نريد تصويرها، غير أنه أصر في عناد شديد على رفض كل ما ورد بها، ولم تنفع معه كل الأوراق الثبوتية والتصريحات الصادرة من الخرطوم، ومرافقنا القادم من العاصمة، ولا مرافقنا الجديد، وبدت الأمور وكأن رحلة اليومين في الصحراء لا طائل منها، إلى أن مَنَحَنا مُتَكَرِّماً الإذن بالتوجه إلى حيث يعيش الوثنيون لتصويرهم.

إذن خلعنا أحذيتنا واستلقينا بكامل ملابسنا على سريرين يطلقان موسيقى نشاز عند كل حركة، فيما بدت جيوش البعوض تحوم في فضاء الغرفة الضيق، رغم أننا أطفأنا الكهرباء التي تُقطع تلقائيًّا في المساء، وقد بدأت تتردد في أذهاننا كلمات ضابط الأمن إياه من ضرورة التوجه إلى قلب المعسكر إذا ما شعرنا بأي حركة غريبة أو سمعنا صفارة الإنذار التي تعني أن الوثنيين انقلبوا على الحكومة وقرروا الإغارة على المعسكر، طاب مساؤنا إذن!

استغرقت في النوم ساعة تحت تأثير إرهاق اليوم، لكن أزيز البعوض تكفل بإيقاظي، وكأنه يغيظني بعد أن فشل في الوصول إلى أي مساحة مكشوفة مني، فقام بالتركيز على فتحتَي الأنف، وكنت من حين لآخر أكشف عن أذنيّ عملًا بنصيحة الضابط واستراقًا للسمع لأي حركة غريبة.

لكن فجأة سمعت صوتًا غريبًا وكأنه يحاول القول "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، خفتُ فليس في المكان إلا أنا ونجيب، كان الصوت يرتفع رويدًا رويدًا، فخلعت كل غطاءاتي وقمت جالسًا على السرير، فإذا هو نجيب يحاول أن يجلس فلا يتمكن، ويحاول أن يُتمّ استعاذته فلا يستطيع، الصوت يرتفع، وهو خارج من نجيب، لكنه ليس بصوت نجيب مطلقًا.

قمت إليه أحاول مساعدته، وبالأحرى مساعدتي أيضًا، إلى أن جلس وأتم استعاذته، كان وجهه مخيفًا، لقد بدا متعبًا للغاية، عيناه جاحظتان، خفت، لجأت إلى مصحفي وبدأت القراءة، ثم خرجنا لنجلس أمام الكارفان رغم التحذيرات، لكن نجيب عادت إليه نفس الحالة، لا يستطيع أن يتنفس، ولا أن يكمل استعاذته، فإذا كانت المرة الأولى كابوسًا فما تفسير المرة الثانية؟ ولذلك كان رعبي أكبر.

ظللنا على هذه الحالة حتى بدت الشمس في الخروج، استرحنا قليلًا ونمنا، وفي الصباح أخبرني نجيب؛ المصور والمخرج التونسي المتعلم والساكن في باريس، أنه شعر بمن يقبض على عنقه وكأنه يريد أن يخنقه، لكنني طمأنته، وذكرت له المثل المصري "ما عفريت إلا البني آدم"، رآنا ضابط الأمن الذي بادر نجيب بالقول "ماذا بك؟ يبدو وجهك مختلفاً ومرهقاً للغاية"، حكينا له الحكاية، ضحك وقال تَلَبّسَك عفريت إذن، قلت في سري أنت عفريتنا الوحيد.

قررنا المغادرة في الحال، فلا جدوى بين كل هذه العفاريت، أتتنا نصيحة مسربة بأن نتوجه إلى مكان كذا فهناك وحدة عسكرية أخرى قد تسمح لنا بما لم تسمح به لنا هذه الوحدة، توجهنا إليها، استقبلنا استقبالًا رائعًا، شكونا لهم ما جرى معنا، دُهِشوا، وعبّر القادة عن غضبهم الشديد، وأن ذلك يعطي انطباعًا سلبيًّا عنهم أمام الإعلام، ووعدوا بالسماح لنا بكل ما نريد.

جلسنا ننتظر، مرت ساعة وساعة، ولم يأتنا أحد، تبخر القادة، قال مراسلنا يبدو أنهم اتصلوا بضابط الأمن في الوحدة العسكرية التي كنا بها، وأتوقع أن يكون قد حذرهم منا، خاصةً وأن "الجزيرة" كانت حينها لا تزال قناة غير معروفة.

قررنا العودة إلى الخرطوم لنشتكي إلى مكتب الإعلام ونطلب تصريحًا آخر، عناء لا يدركه المشاهد الذي يتابع التقارير وهو يحتسي قهوته، أو يهاتف صديقه، وبعد انتهاء مهمتنا في السودان، عدنا إلى ديارنا، وظللت أحمل همّ نجيب: ماذا جرى له؟ اتصلت به في باريس، سألته، أجاب يبدو أن عفريتي لم يتمكن من دخول فرنسا.

أسعد طه

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد