"اللي يحب صاحبه .. يسيبه يمشي طريقه ميعطلوش" .. هكذا قالت صديقتي المقربة التي زاملتني في العمل ثمان سنوات في لقاء جمعنا أخيراً بعد فراق خمسة عشر عاماً .. ثم أكملت "برغم تعلقي الشديد بك .. كنت عارفة أنك أكبر من الدنيا المحدودة هنا .. وأنك لازم تمشي .. وصبرت نفسي : بأن اللي يحب صاحبه يسبيه يكبر .. "
وعلى مدار ثلاث ساعات مروا كثلاث دقائق .. بمهارة صقلتها العشرة والمحبة الخالصة لوجه الله .. فككت عن قلبي كل ما يثقله .. ومسحت عنه الصدأ .. وأعادت شحن بطاريات روحي من روحها النقية .. ورتبت معي ما تبعثر من كياني .. تفهم ما أقول وما لا أقول وتعرف ما أشعر به .. وتدرك رؤيتي لكل موقف أحكيه ..
فبرغم عدم لقائنا كل تلك السنوات لظروف سفر متكرر ومسافات ومسئوليات وتعقيدات لم تنقطع بيننا الصلة أبداً .. تضيق بي الدنيا فأجدها تتصل بي وتسأل عني ! كأنما روحي إستغاثت بها .. لا أحكي تفاصيل ولا نمضي ساعات في الشكاوي والحكاوي .. فقط أطلب منها أن تدعوا لي .. وهو طمع زائد مني لأني صدقاً أعتبر مكالماتها إشارة من الله بالفرج !
وبإنتهاء المكالمة أشعر بالسكينة ويملأني يقين أن الكرب في طريقه للزوال .. لأن هذا القلب النقي الذي أعرف أن لي مكان فيه سيدعوا لي !
هي واحدة من أربع صديقات .. لهن مكانة خاصة في نفسي .. وتربطني بهن رابطة تفوق رابطة الدم والقرابة ..
الثانية هي إبنتي التي لم أنجبها رغم أني أكبرها بأربع سنوات فقط .. فهكذا أراد الله أن تكون علاقتنا .. أتذكر يوم أجرت جراحة خطيرة .. وذهبت لزيارتها .. أحاول كبح دموعي طوال الطريق إلى المستشفى .. أدخل غرفتها المظلمة بهدوء .. والدتها تصلي .. وما أن أجلس على الكرسي بجوارها حتى تفتح عيناها .. تنهي أمها الصلاة وتداعبها قائلة "فوقتي لما سهى جات لك "
أقبل جبينها .. وروحي توشك أن تفلت مني من فرط قلقي عليها .. تهمس لي بصوت ضعيف "ماما بتغير منك يا سهى .. أنا بقيت كويسة والله .. أنا كويسة" .. لي معها موقف فريد ونادر الحدوث في حياتي .. لست من النوع الذي تنتابه مشاعر الغيرة وليس الأمر سمواً أو غروراً، لكن لطبيعتي التي تجعلني.. أعيش في رأسي بالدرجة الأولى معظم الوقت .. و "لا ألاحظ " معظم ما حولي .. لم يكن الموقف صدفة .. كان أمر مدبر من شخص ثالث لإثارة غيرتي .. وفعلاً تأثرت وغرت من صديقتي .. وتصرفت معها بغباء لكنها تجاوزت الموقف وغبائي اللحظي وردت على الشخص المخطط للموقف وتجاوزت عن خطأي ولم تعلق أو تعاتب فقط لمعت في عينها دمعة كتمتها!
لم تغمض لي عين في تلك الليلة .. وذهبت إليها في اليوم التالي وإعترفت صراحة أني أخطأت في حقها وأني شعرت بالغيرة منها وإعتذرت لها .. وسامحتني هي فوراً بلا كلمة عتاب واحدة!
الثالثة لها مواقف كثيرة تملأ كتب أذكر منها موقف في بداية تعارفنا .. ذهبت إلي البنك لسحب مبلغ من المال إستعداداً للسفر في رحلة عمل إلى لندن وفوجئت بأني لا أستطيع سحب ما أريد قبل تاريخ معين لأني أودعتهم كشهادات إيداع .. أعود لعملي غاضبة .. أحكي لها وأنا أغلي من الغيظ .. تهديء ثورتي .. ثم تنزل بريك الغداء .. وتعود لتعطيني ظرف مقفل به خمسة عشر الآف جنيه – في وقت كان الدولار فيه يساوي تقريباً ثلاثة جنيهات ونصف ! – أندهش جداً من تصرفها .. فالأمر ليس معضلة .. سأخذ ما أحتاج من أهلي .. أرفض أخذ النقود منها فتلح صديقتي وتصر .. وتحلف علي بأنها "سحبتهم خلاص .. وأنها كأختي وأمي ولا فرق" .. أعرف أشخاص لا يمكن أن تفعل ذلك وإن توفر معهم المال وإن كنت أنت في إحتياج حقيقي ويعرفون .. وهي فعلت ذلك ونحن بالكاد نعرف بعضنا منذ شهور !
الرابعة علاقة فريدة من نوعها .. تعارفنا بطريقة غريبة وأنا في مفترق الطرق على أكثر من مستوى .. حياتي مضطربة .. وهي أيضاً تمر بظروف صعبة .. منذ لقائنا الأول شعرت بذلك الإحساس الذي أعرفه تماماً عندما أقابل شخص سيكون له أثر كبير في حياتي .. لم نتقارب كثيراً لظروفنا المرتبكة .. ثم تباعدت هي فجأة .. وفي مثل هذه الظروف من الألم الشخصي والمعرفة البسيطة وطبيعتي "التائهة" معظم الوقت عن ملاحظة تصرفات أغلب من حولي.
كان من الطبيعي أن تضمحل تلك العلاقة .. لكن لأنها كما شعرت ليست علاقة عادية شعرت بإبتعادها وسألتها .. وإتضح بالفعل أن هناك سوء تفاهم وتم تصفيته .. من أقدار الله أن شاركتها بالصدفة المحضة لحظات سعادة صافية غير متوقعة ونادرة .. وأن تهاديني بعدها بهدية هي أثمن ما تلقيت .. ليست لقيمتها المادية .. لكن بمشاعر الحب صادق والسعادة الصافية التي رأيتها في عينيها وهي تنتقيها وتهديها لي .. في وقت كنت أحتاج جداً فيه للحظات سعادة حقيقية غير مزيفة ولمشاعر حب صافية بلا أغراض !
ساقها الله في طريقي لتلقي لي بحبل الإنقاذ .. وتهبني دون طلب ودون معرفة ! أن تكون إلى جواري بصبر شديد وروية وتحمل لحالة التمرد -الغير عادية والغريبة جداً عني- التي أمر بها .. علاقة هي عكس كل علاقات الصداقة في حياتي .. كأنها درس لي في كيف تكون الصورة من الجهة الأخرى ! فهي من تعطي .. وهي من تصبر .. وأنا من ينسى.. ويخطىء .. ويقصر .. ويرتكب حماقات بغير قصد ! أشعر الأن بشعور صديقاتي عندما يردن المساعدة وأنا في كهف الصمت أو في تيه الأفكار .. أتمنى أن أكون إلي جوارها .. أود أن أفعل شيئاً له قيمة مؤثرة في حياتها .. كما لها من عظيم أثر في نفسي .. ويقيدني العجز والمسافة .
هناك حكمة تقول أن الإنسان هو ناتج أكثر خمس شخصيات يقضي وقته معهم فأختر لنفسك .. من يرفعك ويشد ظهرك ويقوي عزيمتك .. من يملك مفاتيح روحك .. من يطلق من صدرك زفرة الراحة إذا تعبت .. ويهبك جناحيه إذا كل جناحك .. من يضع على وجهك إبتسامة .. ويثق بك .. ويقدرك .. ويغفر لك تقصيرك وأخطائك .. لا تستهين بصحبتك .. فهم بعض نفسك !
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.