“ساق البامبو”.. البحث عن الوطن في غربة الإنسان!

الحكاية حافلة بتفصيلات وأحداث وأزمنة وتنوع في تقنيات الكتابة أنتجت عملاً يمثل تجربة إنسانية اعتمدت على أحداث وتواريخ موضوعية، والرواية في هذا النموذج بمثابة المنطقة التي يقابِل فيها الوهم في شكل معتقدات موروثة والواقع والظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تُكوّن الأساس لتلك القلاع في الهواء.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/24 الساعة 03:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/24 الساعة 03:19 بتوقيت غرينتش

"الحزن مادة عديمة اللون، غير مرئية، يفرزها شخص ما، تنتقل منه إلى كل ما حوله، يُرى تأثيرها على كل شيء تلامسه، ولا تُرى".
ما ابلغ هذا الوصف..

أحياناً يحتاج الإنسان إلى أن يذهب بخياله بعيداً.. إلى اللامكان، فإذا وصل إلى هذه الحالة فإليك الحل.. "ساق البامبو" رواية تخطفك إلى عالم بعيد، ستأخذ دورك فيها، وستكون أحد أفراد الرواية.. بعد أن يخضع "راشد الطاروف" لمشيئة والدته بالانفصال عن الخادمة الفلبينة "جوزفين" التي تعمل في بيتهم، والتي كان قد تزوجها سرًّا، وحيث إن للعادات والتقاليد في المجتمعات الخليجية سطوة ثقيلة على حياة الأفراد، لا تترك لهم فرصة تحديد واختيار مصيرهم، خشية أن تتلوث سمعة العائلة فيما لو افتضح أمر هذه العلاقة.

ستعيش مع "عيسى/خوسيه"، وتبحث معه عن هويته، ستصبح أنت هذا الطفل، تعيش أحزانه وتضحك معه وتبكي عليه.. ستتجلى لك ازدواجية هوية البطل من خلال اسمه المزدوج "عيسى/خوسيه".. فسؤال الهوية هو ما يطرحه الروائي، من خلال حياة شاب ولد لأب كويتي، ينتمي لعائلة عريقة، ومن أم فلبينية، فتوزعت الرواية بين هاتين الهويتين في علاقة ملتبسة يغلب فيها الشعور بالانتماء إلى ثقافتين مختلفتين، وعدم القدرة على التماهي مع إحداها وترك الأخرى، الرواية تمتاز بسلاسة الأسلوب بعيداً عن التعقيد والتعمق في التحليل..

إنها سيرة حياة بطلها في الفلبين "خوسيه ميندوزا" وفي الكويت "عيسى الراشد" ابن خادمة فلبينية ساقتها حياة الفقر في بلدها لتلاحق حلم المال والحياة الرغيدة في بلاد النفط، فتكون الكويت هي تلك الدولة.. تعمل الخادمة لدى عائلة كويتية، حيث تلتقي "راشد" ابن العائلة الوحيد، شاب يتيم رومنسي عاش تجربة حب سابقة رفضتها والدته لاختلاف المستوى الاجتماعي، تنشأ علاقة حب بين راشد والخادمة تتوج بالزواج ولكن بشكل سري وبموجب عقد زواج عرفي ليكون "عيسى/خوسيه" ثمرة ذلك الزواج، ترفض والدة راشد هذا الزواج، وحين يولد "عيسى/خوسيه" ترفضه كذلك، وتطلب منه التخلى عن "جوزفين"، عندئذ يتخلى الأب عن الابن الذي لم يبلغ شهره الثاني من عمره، ويرسله إلى بلاد أمه، ومن هنا تبدأ الرواية..

العنوان "ساق البامبو"، منذ البداية، يأتي على الرسالة السياسية في الرواية. والراوي يقدم تفسيراً للعلاقة بين ساق البامبو ومحنة بطل الرواية، يقول "عيسى" لنفسه: "لو كنت مثل شجرة البامبو، لا انتماء لها. نقتطع جزءاً من ساقها، نغرسه بلا جذور في أي أرض، لا تلبث الساق طويلاً حتى تنبت لها جذور جديدة، تنمو من جديد، في أرض جديدة، بلا ماضٍ، بلا ذاكرة، لا يلتفت إلى اختلاف الناس حول تسميته.. "كاوايان" في الفلبين، "خيزران" في الكويت، أو "بامبو" في أماكن أخرى.

التناقض يشطر حياته شطرين؛ فهو "عيسى" وهو "خوسيه" وهو لا يكاد يدري ديانته: أمسيحي كأمه.. أم مسلم كأبيه؟ فالبطل مشظَّى بين أديان عدة، وليس داخل دين بعينه، يقول "كنت أمام إبراهيم أجلس، كان صامتاً كما كنت أنا أيضاً. في أذني اليمنى صوت الأذان يرتفع، في أذني اليسرى قرع أجراس الكنيسة. في أنفي رائحة بخور المعابد البوذية تستقر. انصرفتُ عن الأصوات والرائحة والتفتُّ إلى نبضات قلبي المطمئنة، فعرفت أن الله هنا.
والوطن كذلك إشكالية أخرى: أهو موطن الأم والنشأة والواقع.. أم موطن الأب والمستقبل والحلم؟

وهو يتأمل هذا الذي أورثه له أبوه، ويفعله الكثير من أشباه أبيه بمن هن مثل أمه. يقول: "تتحول الفتيات هناك إلى مناديل ورقية يتمخط بها الرجال الغرباء، يرمونها أرضاً، يرحلون ثم تنبت في تلك المناديل كائنات مجهولة الآباء، نعرف بعضهم بالشكل أحياناً، والبعض الآخر لا يجد حرجاً في الاعتراف بذلك، لكنني الوحيد الذي كان يملك ما يميزه عن أولئك مجهولي الآباء.. وعداً كان قد قطعه والدي لوالدتي بأن يعيدني إلى حيث يجب أن أكون، إلى الوطن الذي أنجبه وينتمي إليه؛ لأنتمي إليه أنا أيضاً، أعيش كما يعيش كل من يحمل جنسيته، ولأنعم برغد العيش، وأحيا بسلام طيلة العمر".

وحين يفلح بالعودة إلى الكويت بمساعدة صديق والده، كانت الصدمة في رفض جدته استقباله في منزل العائلة، إلا أنها أبدت بعض اللين ليدخل خوسيه البيت لكن في غرفة بملحق البيت كالخدم. وتكشف الرواية عن حب تكنّه الجدة للحفيد ذي الوجه الفلبيني (ويبدو أن المأساة كانت في وجهه.. يفضحه أو بالأصح يفضح الأسرة العريقة)، هذا الحب الذي انبعث في نفس الجدة سببه مشابهة صوت "خوسيه" لصوت ابنها الفقيد، وهو لحسن الحظ أو لسوئه (لا ندري)، الوحيد في ذرية الطاروف الذي جاء ذكراً، وبمرور الأيام ترق الجدة للحفيد تدريجيًّا، ومما ساعد على تطور العلاقة هي "خولة" أخت "خوسيه" من أبيه التي مثلت له طوق النجاة، فكانت الجسر الذي التقى فوقه الحفيد وجدته لتنفرج أحواله بعض الشيء، إلا أنه في كل الأحوال كان معزولاً عن الأسرة، لا يُسمح له بحضور مناسباتهم، كما يقضي جل وقته وحيداً.

فالنبتة غير قادرة على الثبات في التربة، مهما ارتوت بالماء، لكن الأحداث التالية كانت تحمل له بؤساً، كما بدأت. فقد انتشر الخبر الذي حرصت الأسرة وكافحت من أجل إخفائه، وعرف الناس بأمر الحفيد "الفلبيني"؛ ليواجه مصير الطرد من جديد رغم بعض المقاومة اليائسة ومحاولته التمسك بوطن لم يشعر يوماً أنه وطنه…

عمل روائي يستحق القراءة والتأمل.. عمل الكاتب على تصوير الوعي الإنساني بشكل عميق تصدّى فيه لحقائق اجتماعية تزاحمت فيها أحداث الرواية بما بين بيئتين جغرافيتين واجتماعيتين تحملان تناقضات واختلافات كبيرة..

الحكاية حافلة بتفصيلات وأحداث وأزمنة وتنوع في تقنيات الكتابة أنتجت عملاً يمثل تجربة إنسانية اعتمدت على أحداث وتواريخ موضوعية، والرواية في هذا النموذج بمثابة المنطقة التي يقابِل فيها الوهم في شكل معتقدات موروثة والواقع والظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تُكوّن الأساس لتلك القلاع في الهواء.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد