ظاهرة التسوّل في “فيينا”!

هذا البلد، الذي يُفاخر بكونه واحداً من البلدان الأكثر خضرةً في العالم، ويزخر بأنهار جليدية وبحيرات متلألئة ومناظر طبيعية خلاّبة، مانحاً الزوار الكثير من المواقع الرائعة لالتقاط الصور التذكارية، لأولئك الباحثين عن وجهة توثّق أجمل الذكريات وأمتع الأوقات.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/23 الساعة 04:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/23 الساعة 04:55 بتوقيت غرينتش

أشدّ ما يُلفت الانتباه، في مدينة لها اسمها ومكانتها مثل "فيينا"، وهذا ما استغربناه، حقيقة الزحف غير العادي لظاهرة قديمة متجدّدة تُسمى "التسوّل"، حتى أنَّ من يُتابع الأعداد الهائلة من طوابير المتسوّلين من كبار السنّ من الرجال والنساء، لا بدّ أن يأخذه الاعتقاد، أنَّ شرائح المجتمع في هذه المدينة التي يؤمّها يومياً أعداد هائلة من السيّاح من كل بقاع العالم، آخذة بالازدياد والتنامي عاماً تلو الآخر.

وأصبح من شبه النادر ألاّ نصادف أمثال هؤلاء بشكل يومي في أغلب الأوقات ومعظم الأماكن والأحياء، سواء الراقية أو الشعبية، وخلال التوجّه والعودة من العمل، أو من خلال الأسواق، وبالقرب من المصارف العامة والخاصة، والمطاعم الشهيرة، والمنتزهات، وعلى الأرصفة المحاذية لإشارات المرور، وفي أماكن النقل العامة الـ U وغيرها كثير، الأمر الذي يتعيّن الاعتراف به بعد المقدمة السريعة التي أتينا على ذكرها، أنَّ مهنة التسوّل هي من أقدم المهن على الإطلاق، وعرفتها البشرية جمعاء دون استثناء، وعلى مر العصور، انطلاقاً من حقيقة دامغة تشير إلى أن الفقر وشظف العيش والحاجة الماسة للمال لتلبية حاجات أساسية، وهي من العوامل التي أدّت وتؤدي إلى انتشار هذه الظاهرة في أغلب المجتمعات، وعلى وجه التحديد في العالم الثالث والبلدان الفقيرة، وخاصة في قارتي آسيا وإفريقيا، وأن الذين نصادفهم يتسولون على الأرصفة، وفي الأماكن العامة ليس بالضرورة أن يكونوا فعلياً من أصحاب الحاجة أو لأنهم فقراء ويتطلعون فقط إلى تأمين نفقات الطعام أو الملبس أو فواتير الطبابة أو سواها من الحاجات الضرورية.

ولاشكَّ أنَّ "التسوّل" أو"الشحاذة"، بالعرف الشائع، صارت تشكل حالة من الأسى للكثير ممن نلتقيهم يومياً، حيث صارت أكثر ما تثير ابن "فيينا"، وتُدرُّ عَطفه، بتقديم يد المساعدة لهؤلاء الشحّاذين الذين تزايدت أعدادهم، في الفترة الحالية، مبرّرين نشاطهم لعدم توافر الأعمال التي توفّر لهم حياة كريمة، وبصورة خاصة، على الرغم من المساعدات المجزية التي تقدم لهم ولأسرهم من قبل جهات رسمية.

وابن "فيينا"، ما عليه إلا أن يُبادر بتقديم ما "بِعُبِّه" من نقود، وإن كان المبلغ المتبرّع به زهيداً، فسيقذف به في "حضن" ذاك المتسوّل الذي كثيراً ما تراه يتجوّل مسرع الخُطى في الساحات، والأماكن العامة.
مجمل هذه الصور تزينت بها "فيينا" وللأسف، وتقرأ من خلالها أشكال مختلفة للواقع الذي يُحيط بك.

إن انتشار هذه الظاهرة الاجتماعية، يعود نتيجة غياب الأب الحاضر – الغائب، والتفكك الأسري، وحالات الطلاق التي تمهِّدُ للخوض في غمار هذه المسألة.. أضف إلى أنَّ أغلب المتسوّلين لا يجيدون أيّ عمل آخر بسبب جهل الأسرة، ويتمُّ معالجة ذلك من خلال تظافر الجهود من كافة الجهات المعنية، ليصار إلى رفع المستوى الثقافي والاجتماعي، وللمساهمة في التوعية للحد من هذه الظاهرة.

وعلى ضوء ذلك يتبادر إلى الذهن تساؤلات عدّة، وأهمها: ما هو السرّ وراء تعدّد هذه الفئات التي تقوم بابتزاز المارّة، ومن الجنسين؟ وما يكسبه بعض المتسولين، وفي يوم واحد، قد يصل إلى أرقام مدهشة من عملة اليورو ويلعب الذكاء والدهاء والحنكة في هذا الجانب دوراً محورياً، وغالباً ما يكون الكذب بوابة ملح المتسولين، فبقدر ما يكون مقنعاً في جذب استعطاف وشفقة الناس بقدر ما يُحقّق حصاداً مغرياً من المال، وأحابيل الكذب وفنونه وحدها لا تكفي، وإنما لا بد من إقناع الطرف الآخر الذي هو موضع السؤال والاستجداء بحقيقة حاجته الماسة للمال.

فالمتسول العادي الذي ينتمي إلى فئة الشباب ولا يشكو من عاهة مستدامة قد يكون الأقل حظاً من بين المتسولين، وربما بالكاد يتمكن من تحصيل ثمن علبة السجائر وما يحتاجه من طعام ونفقات وسائط النقل، بينما من يمتلك عاهة مستدامة مقنعة وواضحة للعيان ولا تحتمل التشكيك ولا تمت إلى التمثيل أو التصنّع بصلة، فأمثال هؤلاء غالباً ما يتمكنون من استدرار عطف الناس إلى حدود كبيرة جداً..

التفاصيل التي تحدثنا عنها لا تعني ولا بأي حال من الأحوال، أنَّ غالبية المتسوّلين يخترعون العاهات أو أنهم لا ينتمون إلى شريحة الفقراء، فهناك من هم فقراء بالفعل، وبأمس الحاجة لتوفير نفقات شراء خبزهم اليومي وما تتطلبه حاجات أولادهم، وأمثال هؤلاء لهم ظروفهم، والتي قد تبدأ من موت معيل العائلة، في وقتٍ مبكر، ولا تنتهي عند حدود عدم قدرة رب العائلة على العمل لأسباب وظروف صحية ما يشجّعهم على الوقوف على بعض شارات المرور، أو أماكن بوابات النقل العامة، أو بالقرب من دور العبادة.. وسواها من الأسباب التي يطول شرحها.

إنَّ أغلب المتسوّلين الجائلين فيها اليوم، من غير النمساويين، وطؤوا أرض "فيينا" ولجؤوا إليها بعيداً عن آلة الحرب والدمار التي عبثت ببلدانهم، وحولتها إلى فسحة من الخراب، وجلّهم من اللاجئين، إلا أن ظروفهم الحياتيه جعلتهم يستعطفون المارة الذين لا يفتأون بإغداقهم ما يملكون من فتات ما يعيشون، والصور الكثيرة التي لحظناها، حقيقية في شوارع وأحياء العاصمة النمساوية الجميلة، تجعل من القادمين الجدد محط أنظار أهلها، وضيوفها السيّاح الذي تحتضنهم العاصمة المبهجة مع إشراقة كل صباح، وهذا ما أثار حفيظتهم، وتساؤلاتهم المستنكرة والتي تستغرب صور هذه المناظر المقزّزة التي أساءت للعاصمة النمساوية، واستغربها الزائر الجديد الذي فضّل العيش في النمسا بوابة العبور نحو أسوار أوروبا، بلد النعيم، الذي طالما حلم بها أبناء الشرق الذين ظلّوا، وإلى اليوم، يُمنون النفس بالوصول إليها والعيش في أجوائها المنعشة، الساحرة.

هذا البلد، الذي يُفاخر بكونه واحداً من البلدان الأكثر خضرةً في العالم، ويزخر بأنهار جليدية وبحيرات متلألئة ومناظر طبيعية خلاّبة، مانحاً الزوار الكثير من المواقع الرائعة لالتقاط الصور التذكارية، لأولئك الباحثين عن وجهة توثّق أجمل الذكريات وأمتع الأوقات.

تحميل المزيد