قبل حوالي 15 عاماً من كتابة هذا المقال سيارة دفع رباعي فيها جنود بغطاء رأس أحمر "بيرية" من الانضباط العسكري تلاحق شابًّا عشرينيًّا بملابس عسكرية رثة وهو يصعد على سطح جامع الشبخون الذي يتوسط منطقتنا في قلب مدينة الموصل العراقية، ويناديه أمر الدورية وهو ضابط برتبة متوسطة قائلاً "انزل وما راح أخلي أحد يطخك أو يأذيك"، ينزل الشاب المجند وهو مغلوب على أمره بعد محاصرة المسجد من قبل عناصر الانضباط أو كما يسمونهم بالعامية "الزنابير" نسبة لغطاء الرأس الأحمر الذي يشبه لون حشرة الزنبور ذكر النحل، يصل المجند وهو شاحب اللون ويبدو الخوف عليه إلى وسط الدورية ليتم إلقاء القبض عليه وضربه بشكل وحشي وتقيد يديه ووضعه في صندوق السيارة ذات اللون العسكري لتنطلق مسرعة وابتسامة الضابط لا تفارق خيالي إلى الآن.. كنت طفلاً لم أتجاوز الثالثة عشر من عمري حينها، لكن الموقف جعلني أعيد حساباتي حول وجود ناس تبتسم عندما تخدع أحداً وتفرح بإيذاء الناس.
ما تزال صورة الشباب في الأسواق وهي تهرول مسرعة للهروب عند قدوم سيارة الانضباط العسكري باحثة عن الهاربين من الخدمة العسكرية، لا تزال صورة ذلك الشاب ذي الأذن المقطوعة الذي كان يصلي في المسجد ذاته الذي كنت أصلي فيه لا تفارق خيالي، عقلي الصغير لم يكن يتحمل فكرة قطع أذن شاب، فقط لأنه لا يقبل أن "يتمرغل بالخيسة" وهي بركة من الوحل الآسن التي يتم إلقاء الجنود فيها لمعاقبتهم بواقع أنه جزء من التدريبات العسكرية.
ما أزال أذكر تلك الدموع الصادقة لأحد العمال في السوق، وهو يبكي لعدم قدرته دفع الظلم الواقع عليه من أمر الفصيل الذي قام بضربه أمام الجنود، فقط لأنه شاهد الضابط بالإجازة ولم يلقِ له التحية العسكرية.
ما تزال صور "أبو خليل" وهو لقب الجندي العراقي وهو يطرق أبواب البيوت يستجدي لقمة الخبز أو قيمة تذكرة السفر بالحافلة أو القطار للعودة لأهله، فهو لا يمتلك أي نقود ولا أي راتب حقيقي لسد أبسط احتياجاته.
ولا أزال أذكر عدد الشباب الذين دفعوا مبالغ غرف نومهم أو مبلغ افتتاحهم مشروع ليعيلون به أهلهم أو سنوات العمل، التي تم ادخارها، لتوضع في جيب الحكومة العراقية، التي بدورها تعيدها لجيوب الضباط العراقيين بشكل سيارات "سوبر" و"برازيلي" أو بقطع أراض في وسط المدن بينما تحترق أحلام الشاب ليزدادوا فقراً وحرماناً.
تلك الذكريات المحفورة بداخلي عن قصص التجنيد الإلزامي.. يشاطرني فيها أغلب العراقيين، وهي جزء بسيط مما علق بالذاكرة، وأنا الذي لم تكن لي تجربة مع الخدمة الإلزامية، فما بالك بذاكرة من دخلها؟
هل يخلق قانون التجنيد الإلزامي التوازن بالمؤسسة العسكرية؟
بالبداية يجب أن نعلم أن مسودة القانون تم إقرارها بالإجماع من قبل مجلس الدفاع ورفعها لرئيس الوزراء حيدر العبادي الذي بدوره وافق على رفعها للجنة البرلمانية المختصة بالأمر التي تدرس الأمر لرفعه لرئاسة البرلمان وفي حال طرحه والتصويت عليه، يعد القانون نافذاً ويجب تطبيقه، ولعل أبرز الأسباب التي دفعت بهذا القانون للمقدمة الآن، هو حاجة العراق لمقاتلين في مواجهة تنظيم الدولة "داعش" إضافة لخلق ما يسمى التوازن بالمؤسسة العسكرية، ويقصد بها إعادة المكون السني للمؤسسة العسكرية بعد إقصاء ممنهج من عام 2003م، ولكن الأمر لم يتطرق للقيادات العسكرية من ضباط ومراتب التي لا دخل لقانون التجنيد الإلزامي بخلق التوازن على هذا المستوى، إضافة لأزمة الثقة بين المكونات من موضوع الطبقية التي ستحدث بين مكونات الجيش العراقي، وهذا ما يجعلنا نتخوف من تطبيق قانون يطبق على فئة معينة من الشعب، كما طبق قبله قانون الإرهاب.
أسئلة تحتاج لإجابات قبل الذهاب للتجنيد الإلزامي
قد تكون الآراء المدافعة عن القانون تسوق بعض وجهات النظر التي يمكن أن تبرر إصدار القانون، لكن قبل الذهاب للقانون فلنفرد بعض التساؤلات المنطقية التي يجب الجواب عليها من قِبَل مَن سنَّ هذا القانون.
-التشكيلات العسكرية خارج نطاق الجيش العراقي: حيث يحتوي العراق اليوم على عدد من التشكيلات العسكرية التي تحمل السلاح وغير تابعة للجيش العراقي، مثل الحشد الشعبي بتشكيلاته المختلفة والبشمركة الكوردية، إضافة لمقاتلين العشائر السنية الذين يقاتلون في الأنبار والموصل ضد داعش، فما هو موقف القانون من عناصر هذه التشكيلات؟
-قانون الحرس الوطني: هل يعتبر قانون التجنيد الإلزامي بديلاً لقانون الحرس الوطني الذي يضمن بشكل واضح وصريح النسب السكانية للمحافظات لتمثل في القوة العسكرية، وبذلك يعتبر هو الأقدر على ما يسمى إعادة التوازن للمؤسسة العسكرية، أم أن إلغاء الأول بفيتو السلاح الذي هدد به الحشد الشعبي البرلمان والحكومة في حال إقرار القانون سيجعلنا نؤمن أن موضوع التوازن في قانون التجنيد الإلزامي أمر غير وارد، وإنما خلق تشكيلات من جنود لمحرقة الحرب لصالح القيادات التي تنتمي لطرف معين؟
-إذا تم إقرار قانون التجنيد الإلزامي، هل سترد داعش بالمثل: إقرار القانون في توقيت يسيطر تنظيم الدولة على ما يقارب 4 ملايين مواطن عراقي تحت حكمه يجعلنا نفكر بقلق حول ردة فعل داعش من إقرار القانون، وهل سيتم التعامل بالمثل فتحدث محرقة وقودها الجنود المكلفون بالقهر والجبر من قبل الطرفين؟
-القانون مرحلي أم يستمر بعد داعش: بعد هزيمة داعش هل سيستمر العراق بهذا القانون أم سيتوقف بتوقف الحاجة له؟ وهل تم مناقشة الأمر اقتصاديًّا على المدى القريب والبعيد وتأثيره على ميزانية العراق المنهكة أيضاً أم سنشاهد تسول الجندي العراقي من جديد؟
هذه الأسئلة، إضافة لما علق بالذاكرة التي طرحتها في مطلع المقال تجعلني أقف أمام قانون التجنيد الإلزامي موقف الخائف المتربص من الخطوة غير المحسوبة التي قد تدفع بشباب العراق للتجربة السورية، التي دفعت بالشاب السوري للنزوح والعمل في ظروف قاسية وصعبة، فقط للهروب من خدمة العَلَم "التجنيد الإلزامي"، ومطحنة الموت التي لم تعد مقتصرة على الداخل السوري أو العراقي وإنما حروب وكالة يخوضها شباب البلدين لصالح قوى إقليمية ودولية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.