"إن ما تحتاجه مصر أساساً ثورة نفسية؛ ثورة على نفسها أولاً، وعلى نفسيتها ثانياً، تغيير جذري في العقلية والمُثُل وأيديولوجية الحياة، قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها. ثورة في الشخصية المصرية وعلى الشخصية المصرية! ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر".
جمال حمدان شخصية مصر؛ دراسة في عبقرية المكان
1-الجمهورية والديمقراطية
صراع طويل بين الإسلاميين والليبراليين في مصر حول مصطلح الديمقراطية، والفارق بين الديمقراطية والشورى، واتهامات بالبعد عن الديمقراطية، يقابلها محاولات لإيجاد مبررات لتكييف مصطلح الديمقراطية ليكون إسلاميًّا.
وينسى هؤلاء أن الديمقراطية نظام عُرف تاريخيًّا بمنتقديه، أكثر مما عرف بالمدافعين عنه! فمنذ اليونانيين القدماء، وحتى اليوم لم يتوحد الناس على تعريف واحد جامع للديمقراطية، ولا سمة رئيسية تجمع بين جميع النظريات والتفريعات الديمقراطية.
كان التوصيف الأمثل للديمقراطية هو "التشابه العائلي" family resemblance، والمقصود أنه كما لا توجد سمة واحدة في جميع أفراد عائلة ما، يشتركون فيها، بل سمات تجمع بين مختلف أفراد العائلة، دون أن تكون هناك سمة واحدة مشتركة بين الجميع؛ فإن النظريات والتفريعات الديمقراطية تتفق في سمات مشتركة دون أن يكون هناك سمة واحدة بين جميع التفريعات.
فإذا كان للجميع انتقاداتهم ورؤيتهم الخاصة، فلم لا يكون لنا نحن أيضاً انتقاداتنا، ورؤيتنا الخاصة، في الجمهورية التي ننتوي إقامتها؟
2- توكفيل: الديمقراطية وطغيان الأغلبية
في عام 1830 توجَّه أرستقراطي فرنسي يُدعى "أليكس دو توكفيل" إلى الولايات المتحدة لدراسة نظام السجون هناك. لكنه انشغل عن ذلك بدراسة الديمقراطية الأميركية، وكتب فيها كتاباً مهمًّا، صاغ فيه أهم التعبيرات السياسية في العصر الحديث وهو "طغيان الأغلبية" Tyranny of the majority لم يكن توكفيل معجباً بأميركا، ولا الأميركان، وكان يرى أن نظامهم وضع البلد كلها في يد الأغلبية! الحكومة التنفيذية بيد الأغلبية، والقوانين يضعها البرلمان بالأغلبية، حتى النظام القضائي، يخضع للأغلبية التي تُعيّن حتى بعض القضاة!
رأى توكفيل في كتابه "الديمقراطية في أميركا" Democracy in America المنشور في مجلدين 1835، و1840، أن الاحتكام للأغلبية ربما يبدو علميًّا، لكنه غير علمي على الإطلاق! وعليه فقد رأى توكفيل أنه، وبرغم إعجابه بالمؤسسات في أميركا، إلا أنه كان يرى في النظام الأميركي نظاماً غير ديمقراطي بشكل خالص.
3- جيمس ماديسون: جمهورية بلا طغيان
لم يكن توكفيل أول من لاحظ تلك العيوب، بل إن واحدًا من الآباء الأوائل المؤسسين للدولة الأميركية، وهو "جيمس ماديسون" قد كتب عن ذلك قبله بعقود.
كان جيمس ماديسون أحد الآباء المؤسسين للدستور الأميركي (بصحبة أليكسندر هاميلتون وجون جاي وآخرين) يصدرون صحفاً غير دورية (في الفترة من 1787-1788) عُرفت تاريخيًّا باسم الصحف الفيدرالية Federalists papers، بهدف إقناع أهالي ولاية نيويورك خصوصاً بالدستور الجديد. قبل أن يدب الخلاف بين المؤسسين بعدها بعقود وتندلع الحرب الأهلية!
في إحدى تلك الصحف قال ماديسون، الذي صار رئيساً فيما بعد: "إن وجود فصيل له الأغلبية في المجتمع يعني أن ذلك سيعود بالضرر على بقية الفصائل الصغرى".
كان ماديسون يرى أنهم، وهم بصدد تأسيس دولة جديدة، أمام خيارين يمنعان طغيان الأغلبية:
أحدهما ألا يوجد فضائل أصلاً في المجتمع، كما كان الحال في أثينا القديمة! دولة عسكرية تُقصي جميع الفصائل الأخرى (العبيد- النساء- البرابرة.. إلخ) ومن هنا لا يطغى فصيل على الآخر؛ لأنه ببساطة لا يوجد تمثيل للفصائل في الدولة! وهذا هو ما رفضه ماديسون، وهو عين ما فعله انقلاب 3 يوليو العسكري في مصر.
الخيار الثاني هو وجود فصائل متقاطعة، cross-cutting cleavages يردع بعضها بعضاً، وتحدث التوازن اللازم لعدم طغيان أحد هذه الفصائل على الأخرى!
وإذا طبقنا هذا الكلام على مصر، فسنجد أن تخوفات ماديسون من لجوء الأقليات إلى الانقلابات العسكرية واستخدام السلاح ضد الأغلبية التي تفوز دائماً في محله!
فمن ينادون بوجود فصائل متقاطعة في مصر، لا ينطلقون من هدف إحداث التوازن الذي تكلم عنه ماديسون، ولكنهم ينطلقون من حقيقة أن أي انتخابات في مصر يفوز فيها الإخوان، وبالتالي فهم إما يطلبون نصيباً أكبر من حجمهم يوازنون به قوة الإخوان، أو يطالبون بابتعاد الإخوان عن العملية السياسية ككل لفترة كافية تمكنهم من أن يقوى عودهم والوقوف على أرض صلبة!
ولعل هذا معنى كلمتهم التي يرددونها كالببغاء دون فهم أو وعي أن "الديمقراطية ليست صندوقاً فقط"، فقد رأينا خياراتهم بوضوح، وتصريحاتهم ومواقفهم السياسية التي اتخذوها ثم اتضح المستنقع الذي وصلوا إليه، وهو مستنقع مليء بدماء الثوار!
إن اعتراض هؤلاء على الرئيس مرسي، لم يكن نابعاً من رغبة في تحسين الظروف السياسية، ولكن من رغبة في إيجاد وضع سياسي جديد، لا يسمح باستمرار الإخوان في السلطة، أو حتى بقائهم على قيد الحياة!
4- الجمهورية الرابعة
يجب أن يكون الأمر واضحًا للجميع، لسنا بصدد تغيير هيكلي أو شكلي في قيادة الانقلاب، ولا التضحية ببعض حلقاته الأضعف (كأمناء الشرطة) مقابل الحفاظ على الرؤوس في المخابرات العسكرية والعامة والقضاء والإعلام ومن يحركهم من جنرالات الجيش. لسنا بصدد الانجرار إلى معارك جزئية أو ثانوية أو وهمية بعيداً عن الأهداف الحقيقية التي تبتغيها هذه الموجة من الثورة!
إننا بصدد تأسيس جمهورية جديدة، لا تمت إلى الماضي بصلة، ولا تأخذ منه إلا العبر، في عدم التساهل مع أعداء الثورة بورع كاذب وفلسفة ساذجة!
ثلاث محاولات فاشلة لتأسيس الجمهورية
1- الجمهورية الأولى: التي أسسها نجيب، وتم الانقلاب عليها وعلى مبادئها بالقوة بعد انسحاب الثوار من مظاهرة عابدين الشهيرة، وهو الدرس الأكبر الذي تعلمه الثوار في رابعة، فتشبثوا بالميدان ولم ينسحبوا!
2- الجمهورية الثانية: أسسها عبد الناصر بدعم خفي من الأميركان الطامعين في وراثة مصر والمنطقة من الإنجليز. وقد كانت جمهورية قومية عنصرية مستبدة، ألغت الأحزاب والجماعات، وأسست لحكم الفرد، مختلفة تمامًا عما أعلنه الجيش في "البيان الأول للثورة".
3- الجمهورية الثالثة: تأسست بعد ثوررة يناير 2011، وكان إنجازها الأعظم أنها أنجبت مؤسسات ملموسة على أرض الواقع، أبرزها الرئيس مرسي المدني المنتخب ديمقراطيًّا لأول مرة (أول مرة مدني وأول مرة منتخب ديمقراطيًّا)، بالإضافة إلى الدستور المستفتى عليه، والبرلمان المنتخب. ولم يستطيعوا التخلص من هذه الجمهورية بالحلول السياسية، فلجأوا إلى الانقلاب عليها كاملة في انقلاب 3 يوليو العسكري.
ونحن الآن بصدد التجهيز لتأسيس الجمهورية الرابعة -أو جمهورية رابعة إذا شئت أن تسميها- وهي جمهورية تختلف عن كل ما سبق من محاولات، في أنها أكثر نضجاً ووعياً وعمقاً وفهماً لطبيعة القوم والتحديات التي تواجهها.
إن جمهورية رابعة ليست ضعيفة ولا يجب أبدًا أن تكون ضعيفة. يجب أن تكون محصنة ضد أي انقلاب عسكري جديد.
الجمهورية الرابعة هي جمهورية خالية من الطغيان Tyranny free republic، وهي ديمقراطية بمعنى أن القرار فيها ليس فرديًّا، وتحترم حرية التعبير والتظاهر وتكوين الأحزاب، وتضمن تداولاً سلميًّا للسلطة.
ويجب ألا يتعارض ذلك مع القصاص من الرموز السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية والقضائية التي شاركت في القتل أو حرضت عليه، أو ساهمت في إفساد الوطن والمواطن بأدلة ملموسة. وعدم التساهل مطلقاً مع أي معارضة تتلقى تمويلاً أجنبيًّا أو يثبت تواطؤها مع الخارج.
هدف الجمهورية الرابعة
والجمهورية الرابعة تعترف بحق الناس في الاختيار، لكن ليس في جميع القضايا، كما يصر البعض على طرح هذا التفريع خصيصاً من بين كل النظريات الديمقراطية، بل في القضايا التي ليس فيها نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة من القرآن والسنة.
فالجمهورية الرابعة تهدف لتطبيق الشريعة على المدى البعيد، بعد تحرير الأمة من المشروع الصهيو أميركي، وبالتوازي مع مشروع التحرير. وهي أيضاً تضمن للأقليات حقوقهم، كما كان الإسلام دوماً، دون إفراط، أو تفريط في حق الله على الأمة!
والجمهورية الرابعة لا تفرض ذلك على الناس بالقوة، كما فعلت الديكتاتوريات التي عانينا منها، وعانى منها المظلومون في العالم! بل تنفذ ذلك على مرحلتين:
1- مرحلة الحقوق الإنسانية: التي يتفق عليها جميع المؤمنين بالثورة، بغض النظر عن أيديولوجياتهم (مثل حرية التعبير- تداول السلطة- الفصل بين السلطات – العدالة- القصاص.. إلخ).
2- المرحلة الثانية: بعد بناء المرحلة الأولى وبالتوازي معها، وهي إقناع عموم الناس بالحقوق الإسلامية؛ ونعني به تطبيق الشريعة الإسلامية التي تبدأ بتحرير القدس، وتنتهي بإقامة العدل في الأرض.
وفي كلتا المرحلتين (الحقوق الإنسانية – الشريعة الإسلامية) فإن الجمهورية الرابعة لا بد وأن تضمن وجود معارضة، سواء من يعارضون الحكم الإسلامي، أو من يعارضون الفكر الثوري نفسه، لأن القاعدة تقول إن عدم السماح بوجود معارضة وطنية، سيؤدي إلى وجود معارضة غير وطنية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.