"ثورة ثورة حتى النصر".. شعار اتخذته ثورات سبقت الثورة السورية ونثرت بذورها نحو سوريا ضمن نسائم الربيع العربي التي مرت بين مصر وتونس.
أذكر تجمعات الثوار المصريين في الساحات على مدى ثمانية عشر يوما والتي كانت تشدني لشاشة التلفاز وتغمرني بكل المشاعر المختلطة من غضب وألم ورغبة بالحرية، أدمنت بها مشاهدة التلفاز، ثمانية عشر يوما متتالية لم يترك الثوار المصريون ساحة احتجاجهم.
نصبوا خيامهم واستمروا بمطلبهم بإسقاط نظام مبارك، كان فرحي كبيرا وشعوري لا يوصف حينما أعلن المصريون نصر ثورتهم ، كنت أرى بقائهم لمدة ثمانية عشر يوما في العراء إجحافا كبيرا بحق الإنسانية …. لم أفهم وقتها أن الإجحاف والظلم له معاني مختلفة سنتذوقها شعبا بعد فترة وجيزة.
لربما كانت الاحتجاجات المختلفة والعديدة في سوريا ومنها الاعتصام أمام السفارة الليبية وبعدها أمام باب توما التي تمت دون تغطية إعلامية وتكتيم شديد من قبل النظام عنها ثم يوم الكتابة على جدران مدرسة جديدة عرطوز بأواخر الشهر الأول من شهر فبراير/شباط 2011 وبعدها قضية أطفال درعا يوم التاسع من مارس/ آذار ومن ثم مظاهرة أهالي المعتقلين السياسيين.. لم تكن من الأسباب الجوهرية التي فجرت روح الثورة التي لم تكن شيئا مفاجئا وإنما تحصيل حاصل لكل التراكمات التي خلفها النظام الحاكم في فترتي حكم الأب والابن.
فلقد عانى السوريون لمدة أربعون عاما من الاستبداد السياسي والقمع والتهجير والتشريد ومصادرة الرأي والاعتقال لجميع التوجهات المغايرة للنظام الحاكم ، ولم يتمكن أحد من نسيان الأربعين ألف شهيدا حصيلة مجزرة حماة التي لم تتم محاكمة مرتكبيها أو محاسبتهم حتى تاريخ المقال.
شكلت المظاهرات في ذلك الوقت صدً يتردد ملء الكون وتصده جدران العالم . على الصعيد الشخصي لم أحضر أي مظاهرة خلال الثورة ،بعكس أغلب أفراد عائلتي وجيراني وأصدقائي ، مع أنني عشت أحداثها جميعا واختبرت مشاعرهم وغبطتهم عليها.
لن أنسى يوما مظاهرة حي الميدان حين عاد الجميع بعيون حمراء مرهقين من الركض هربا من الأمن، في ذلك اليوم قابلهم الأمن بقنابل مسيلة للدموع تسبب احمرارا شديدا بالعينين وعدم القدرة على الرؤية الواضحة وضيق في التنفس.
كنت أرقب التحركات الإحتجاجية يوميا، كانت دمشق غنية بحاراتها الضيقة التي يصعب على أي عنصر أمن إيجادهم فكان الهروب سهلا من بين البيوت العربية البسيطة.
أجمل المواقف الاستفزازية بالنسبة للأمن عندما يستيقظ عند الرابعة صباحا على أصوات المظاهرات المنادية بإسقاط النظام وإسقاط بشار الأسد ناثرين على الأرض قصاصات أوراق صغيرة مكتوب عليها شعارات الثورة وعندما يفشل الأمن بملاحقتهم كان يلتفت إلى جدران الحارات فيجد الرجل البخاخ قد وضع بصمته.
ثم فجأة تمتلئ الحارات الشعبية بسيارات الأمن والعمال لدهن ما تمت كتابته على الجدران فكان أن اتبع الأمن طريقة أحدث في التحصن من المظاهرات في تلك الفترة ، بأن نثر عربات الباعة المتجولين على طول الحارات الضيقة ووزع عناصر الأمن بكل المحلات التجارية وكأنها ردة فعل جنونية على ما يحدث وما سيحدث فيقوم الثوار بنقل احتجاجاتهم إلى مناطق أخرى … وهكذا…
بعد فترة وجيزة من بدء الثورة تم استبدال ألوان العلم حتى يتم تميزه عن علم النظام القائم وأصبح العلم الأخضر رمز للثورة السورية،وبحكم تنقلي بين عدة أماكن، استطعت رؤية الأعمال الفنية والإبداعات التي نتجت خلال تلك الفترة.
رأيت اللفحات التي تحيكها النساء الثائرات بألوان العلم الأخضر راسمة النجمات التي تتوسطها، أما الأخريات فقد صنعن الأساور والحلي وقمن بتوزيعها على المتظاهرين بإحدى المظاهرات ، وأخريات كانت تحيك القبعات وترسم على الكنزات قبل أن تهديها لأحبائها وأزواجها وإخوتها فلربما تكون المرة الأخيرة التي يلتقين بهم، شعور خدر وجميل هو شعور التوق إلى الحرية.
جميع السوريون الذين التحقوا بالثورة شاركوا برسم ثورتهم الخاصة بالمظاهرات اليومية والأغاني الشعبية والأناشيد ثم برزت اللافتات التي غدت رمزا فكاهيا عاكسا للنظرة الفنية لمبدعين كانت وسيلتهم النضالية الوحيدة ، كما تفنن البعض الآخر برسم صور مختلفة بألوان العلم الأخضر بعد اتخاذه رمزا للثورة السورية ،كل ذلك كطرق سلمية بسيطة للمطالبة بإسقاط النظام الذي جابههم بالقتل والقنص والحصار.
كنت أشعر بالخوف في كل مرة اضطر لركوب سيارة الأجرة حيث كان اسمي مشبوها جدا بسبب اسم شقيقتي رزان المطلوبة رقم واحد لدى النظام وشبهي الكبير بها كون الحواجز ممتدة على طول الطرقات وكل حاجز يأمر بإيقاف السيارات ورؤية الهويات الشخصية لكل من السائق والراكب.
ودائما ما يتم اعتقال عدة أشخاص لمجرد الشك فيهم أو بسبب كونهم في عمر التجنيد ، وكثير من الأحيان تم اعتقال شبان وفتيات دون معرفة أي أثر لهم بعد ذلك.
وقد كثف النظام منذ ذلك الوقت حملاته على المدنيين بكافة الوسائل القمعية من قصف بالصواريخ إلى رمي البراميل المتفجرة ثم زراعة الألغام في كل مكان واتبع سياسة التهجير والتشريد والحصار الممنهج لتجويع المدنيين كوسيلة حرب، تنفيذا لسياسة التغيير الديموغرافي مستعينا بالعديد من الميليشيات المرتزقة والقوات الموالية له من عدة دول كحزب الله من لبنان والعديد من الميليشيات الشيعية التي قدمت لدعمه من ايران والعراق وبالفترة الأخيرة من روسيا.
ومع ذلك استمرت الثورة بشكلها المدني السلمي مطالبة بإسقاط النظام وبإقامة دولة تعددية ديمقراطية تضم جميع السوريين بدون استثناء.
بالرغم من كافة محاولات النظام لعسكرتها ونجاحه بذلك فلم يؤثر في الفكر السلمي للمدنيين ولم يقض على روح الثورة والتوحد الروحي بين أطياف الشعب .لقد كانت المفاجأة عند البدء بتنفيذ الهدنة منذ أيام بعودة المظاهرات في كافة أنحاء البلاد مطالبين بإسقاط النظام بالإضافة إلى كافة الفصائل ذات الممارسات الشبيهة بممارسات النظام ومنها جبهة النصرة وضد التقسيم وضد الاحتلال.
رُفع شعار المدنية والسلمية من جديد، عادت الثورة إلى مبادئها الأولى التي خرج بها مدنييو وفنانو ومثقفو وحقوقيو سوريا، فبدأت ملامح النصر ترتسم من جديد بعدما عّلمت الثورة السورية العالم أجمعه معنى الصبر والصمود في وجه الموت والظلم ، فالنصر قادم لا محالة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.