تصرّف عفوي، لكنه مُلهِم

في يوم ما، أهداني هذا الرجل تصميماً، وقد أعجبني كثيراً لسببين: الأول هو أن هذا التصميم جاءني فجأة دون سابق إنذار أو تخطيط، وأنا من طبعي أحب الأمور الجميلة التي تأتي فجأة على غير توقع، والثاني هو أنه من الرجل الذي ظننت أن إمكاناته بسيطة، وبالتالي فكيف له أن يصمم مثل هذا التصميم الجميل؟!

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/15 الساعة 06:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/15 الساعة 06:04 بتوقيت غرينتش

كنت أراه هادئ الطباع، يتحدث بهدوء، ولم أره غاضباً في أي وقت مضى رغم أنني أتعامل معه يوميًّا منذ أربع سنوات. إنه طيب القلب، وأعتقده لا يحمل في قلبه ضغينة لأحد، وأعتقد أنه يحب الناس البسطاء الذين لا يتعالون على غيرهم من البشر، بل يستقبلون بعضهم بالتحية والسلام والابتسامة الخفيفة.

كنت أظنه بسيط الإمكانات، يقضي يومه خلف شاشة جهازه الحاسوب، يتصفح المواقع المختلفة الإخبارية وغيرها، ويتابع مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن ينقضي الوقت. كنت أظن ذلك عاديًّا بالنسبة له، فهو لا يفعل إلا ما نراه من الكثير الكثير من الشباب والرجال الآخرين الذين يقضون وقتهم خلف شاشاتهم وفي حساباتهم على مواقع التواصل أو على المقاهي يقضون وقتهم وربما بلا فائدة تُذكر تعود عليهم.

إلا أن هذا الرجل الذي أتحدث عنه فاجأني أن نظرتي له كانت خاطئة، وأنه كان يستغل وقته أحسن استغلال، وهنا تبدأ القصة:

في يوم ما، أهداني هذا الرجل تصميماً، وقد أعجبني كثيراً لسببين: الأول هو أن هذا التصميم جاءني فجأة دون سابق إنذار أو تخطيط، وأنا من طبعي أحب الأمور الجميلة التي تأتي فجأة على غير توقع، والثاني هو أنه من الرجل الذي ظننت أن إمكاناته بسيطة، وبالتالي فكيف له أن يصمم مثل هذا التصميم الجميل؟!

رأيته في اليوم التالي، وكنت عازماً على شكره، رأيته فسلمت عليه كما المعتاد، ولم يراجعني في هذا الأمر، فظننت حينها أنه نسي الموضوع، وتناسيت أنا أن هذا الرجل طيب الأصل، وبالتالي لا ولن يراجعني بالتصميم أو يطلب رأيي فيه حتى لا يحرجني أو يمنّ عليّ به، وهذا كان درساً آخر منه لي.
وجدت نفسي أقول له: شكراً على التصميم الجميل، فاجأتني به، ودار بيني وبينه الحوار التالي:

سألني: هل أعجبك؟

أجبته: بكل تأكيد، بل أسعدتني به.

فقال الحمد لله.

سألته: هل هذا التصميم من عملك أنت؟

أجابني: نعم، فأنا أتعلم التصميم في هذه الأيام.

سألته: هل تتعلمه من خلال دورة تدريبية؟

فأجابني: لا، أنا أتعلم التصميم ذاتيًّا، طالما أنني أملك جهاز حاسوب، والبرنامج متوفر عندي، وأملك الوقت الكافي، فلماذا لا أتعلم، لقد بدأت بالتعلم منذ فترة بسيطة، وهأنا أواصل التعلم.

أخبرته: لم أكن أتوقع ذلك! أسعدتني بما سمعت.

وانتهى هذا الحوار بيني وبينه، ولكن ما سمعته منه زاد احترامي لهذا الرجل لهمّته أكثر من احترامي له لطيبته. فكيف لرجل ثلاثيني هو في نظر الكثيرين (رجل عادي) ليس لديه إمكانات أن يكون له همّة بأن يستغل وقته، ويتعلم شيئاً جديداً في كل يوم يعيش فيه. كيف له أن لا يستسلم لواقعه البسيط، وأن يستمر في التعلم، بل والتعلم الذاتي الذي لا يقدر عليه كثير من الشباب بحجة أنه لا يوجد وقت لديهم، أو لا يستطيعون ضبط أنفسهم ووقتهم والصبر على هذه الطريقة في التعلم، أو أنهم لا يحتملون الصبر على التجريب والخطأ، ونجد كثيراً منهم بعد ذلك على المقاهي أو على شاشات الكمبيوتر يضيعون وقتهم على مواقع التواصل الاجتماعي دون فائدة.

إن قصة هذا الرجل التي جاءت أمامي دون أي تنسيق مسبق، لم تنتهِ عند هذا الحد، بل إن هذا الرجل لم يكتفِ أن يخبرني أنه يتعلم التصميم، بل شارك ما يقوم بتصميمه مع غيره، بتصرف يعرفه أهل التسويق والعاملين به بأنه تصرف "تسويق العمل من خلال الآخرين".

نعم؛ هو قام بالتصميم ليقوم بالتعلم، ولكنه اختار فكرة أن يصمم لي، في مناسبة لي، دون طلب منّي، وأن ينشر هذه التصاميم على حسابي، لينال الإعجابات والتعليقات المحفزة.

هو لا يعرف بأن ما قام به نسميه "تسويقاً" فقد قام بالتصرف من داعي محبته لي، ولكني وجدته بتصرفه العفوي هذا، مثالاً للهمة والنشاط والإلهام.

ويا ليت كاتب السطور يمتلك مثل همّته

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد