من أنا؟
سؤالٌ بسيطٌ اعتدنا تعقيدَ إجَابته. لأجله اعتدنا إحياءَ إثنياتٍ ضاربةٍ في القدم، استحضارَ أنبياء.. رسل.. معلمين.. وأولياء صالحين، لغات.. لهجات، تاريخ عائلي.. مِهْني.. طبقي، حسابات بنكية.. قصص.. روايات وحكايا.. شائعات.. غراميات.. طموحات.. رغبات.
أما أنا فقصتي أبسط!
أنا المجموع المتواضع لعاداتي الصغيرة!
أنا ليالي السمر مع الأصدقاء، جدلٌ طويلٌ في الكون والوعي والوطن.
أنا استرخاءٌ كسلٌ في يوم العطلة.. استغراقٌ في القراءة، متابعة برامجي الكوميدية.. والضحك عالياً.
أنا الاستيقاظ رقصاً على وقع موسيقايَ المفضلة، فنجانُ قهوةٍ أرتشفهُ بهدوءٍ على شُرفةٍ أمام نافذةٍ أيةِ فسحةٍ سماويّة، أتابعُ بمتعةٍ في فراغها الغيومَ العابرةَ بهدوء أمامي، كأن لا همَّ لها ولا وجهة تنتظرها، مثلي ومثل قهوتي!
أنا الغروبُ الآسرُ، بكلّ كيميائِهِ.. فيزيائِهِ.. التي تَجعلُ للمعادلاتِ المعقدةِ ألواناً حالمةً، إن رنت إليها ملايين العيون كان لها في كل عين منها قصة، أركنُ دراجتي، أُخرجُ هاتفي ألتقطُ صورةً أُرسلها إلى أبي.
أنا مغفرة الغروب الرحيمة "حاولتُ اليومَ جاهدةً وسأحاول غداً مرةً أخرى".
أنا تقلباتُ المزاجِ الجامحة. أنا مسحةُ حزنٍ تتلوها فورةُ فرح، هوى ربيعيٌّ متأججٌ يتلاشى مع الوقت إلى لامبالاةٍ صيفيةٍ في انتظار قصةٍ جديدة. أنا الترحالُ على متنِ دراجةٍ.. أباصٍ.. أقطارٍ.. أطائرة، والدهشة والفاهُ الفاغرُ أمامَ عظمةِ ما بناه الإنسان في سنينه المعدودة، والرهبةُ.. الخشوعُ في محرابِ الطبيعةِ المعمّرة.
أنا أيضاً مقتنياتي الصغيرة التي تتسع بعد جهد في حقيبة من القياس الكبير، أعبر بها إلى خشبة مسرحٍ جديدٍ في وطنٍ جديد. أنا حَلَقٌ فضيٌّ من محالٍ تقليدية عتيقة تعانقُ الجامعَ الأمويَّ في قيمريةِ دمشقَ أهدتني إيَّاهُ أمّي.
أنا إسورة من خيوط حمراء وصفراء بيضاء، من معبدٍ تاريخيٍ مسالم في جبل كويا صلَّى عليها رهبانٌ بوذيون ودعوا لصاحبها بالسعادةِ، أهدتني إيَّاها صديقتي، أنا مغانط ملوّنة باسم مدنٍ زرتها، اعترافٌ مضمرٌ بأنني كنتُ هناك، كختمِ الجماركِ على جواز سفري، أزين بها ثلاجتي في وجهتي القادمة!
أنا محادثة سكايب طويلة، أنا الكثير من الرسائل القصيرة العابرة لتطبيقات هاتفي الذكي، الكثير من الصور والسيلفي أيضاً، من الإيموجيز الساخرة الستيكرز الفرحة المتحركة.
أنا مغامراتي الصغيرة. خيباتي، فشلي نجاحي.
أنا دروسٌ تعلَّمتها بثمنٍ ليسَ ببخسٍ، تُمسِك بيدي بحزمٍ في مفترقات الضياع تهمس في أذني أن لا بأس، لقد مررنا من هنا من قبل، أتذكرين؟ ظننتِ حينها أنها ستكون النهايةَ ولم تَكن! ستعبرين من هنا أيضاً بسلام.
أنا نفسٌ عميقٌ أتنشَّقُه بهدوءٍ أعدُّ على أصابعي واحد اثنان ثلاثة، نفسٌ عميقٌ أحتفظُ به في رئتيَّ وأعدُّ على أصابعي واحد اثنان ثلاثة، نفسٌ عميقٌ يغادرني ببطء فيما أعدّ على أصابعي واحد اثنين ثلاثة.
ثم أكرر، ثم أكرر، ثم أكرر. أمسح دموعي، أتمتم لنفسي: سأكونُ بخيرٍ، أنهضُ ثم أتابعُ المسير.
أنا الجرأة في اختيارِ ألوانٍ جديدةٍ أرسمُ بها نفسي بصدق. أنا الشفافية في عيش حياةٍ تشبهني، تمثلني هنا، تمثلني الآن. أنا الشغفُ بالاحتمالاتِ اللامتناهيةِ لكلِّ ما يمكنُ أن نكونَه، لكلِّ ما يجعلُنا نحن، لملياراتٍ من القصص يحملها أبناء جنسي يطوفون بها زوايا الكوكب الأزرق بحثاً عن فصولٍ جديدة.
أنا الكثيرُ من الحبّ لهذه الحياة، لهذه الفرصة، لكل ثانيةٍ من الضوء، من النبض، من فورات العشق، أتلقاها بمتعةٍ وأفتحها بتأنٍ كهديةٍ ثمنيةٍ أعاهدُ نفسي أن أستحقها. أنا الإعتراف بفرادتنا، باختلافنا جمال ما يجمعنا جمال ما يفرقنا.
أنا إنسان صغير غير مثالي الشكل ولا المضمون، ولا يبحث عن المثالية في أيّ منهما. يركب الأمواجَ إلى وجهات مجهولة. يعبر بلاداً فتعبره حيواتُ كل من يلتقيه فيها، يُخرج قلمه يُقلّب صفحات قصته يكتب فيها، يُعيد ترتيبها، يرسمها يلوّنها ثم يحتضنها بألفة: هذي قصتي، هذي أنا، حقيقتي الوحيدة، حقيقتي الفريدة.
كُلّما وجدت نفسي في مكان جديدٍ لا آلفه، في بيتٍ جديدٍ فارغ، مدينةٍ جديدةٍ كبيرة، أُفرغ حقائبي بورع، أُرتّب مقتنياتي الصغيرة، أمارس عاداتي الصغيرة، أُطالع دفتر قصصي، آخذ نفساً طويلاً عميقاً، أنا بخير، أنا في بيتي، أنا في وطني.
لأنني أحملُ بيتي في داخلي.. أينما سافرت.. أينما حللت..
لأنني أنا بيتي…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.