قالت لي إحدى صديقاتي ذات يوم: "عندما خرجت من دهاليزهم بعد غياب، لم أستطع أن أنظر لها بعين المُحب والمشتاق.. لقدّ كرِهتها".
قالوا لنا يوماً: "وطنٌ لا نحميه لا نستحق العيش فيه..".
نسألهم اليوم: "وماذا عن وطن لم يحمِنا؟".
كلمات صديقتي جعلت ذاكرتي تعودُ بيّ إلى أيامِ الطفولة التي عشتها في تلك المدينة..
إلى ذلك اليومِ المُثلج في سوق االحميدية وسط دمشق.. حين كانت قدمايَ تُؤلماني من شدة البرد، فحملني والدي على كتفيهِ طوال وقت تبضُّعْنا من هناك، حتى عدنا إلى المنزل، ذلك البياض الذي غطَّى معالمها وسكن قلبي ولونّهُ حدَّ النقاء.
أذكرها صغيرة إن تحدثت عن المساحة..
كبيرة إن تحدثت عن الحب..
حنونةٌ كوالدي، ككتفيه.. كيديه!
بيضاء َكلحيتهِ الآن..
وجنةٌ كقلبه..
هكذا كانت " شامي" وهكذا كنت أراها.
آلمني بردُها حين ذاك.. لكنني لم أكن أعلم ان هناك يوماً قادماً ستؤلم في بردها أيضاً الآلاف من أطفالها..
ولكنهم اليوم.. لن يجدوا من يحملهُم على أكتافهِ.. ولن يجدوا منازل ليعودوا إليها، كما لا أعلم هل لبياضها مكانٌ في قلوبهم؟ أم أن سواد حربُها كان أقوى.
بعد أيامٍ قليلة من ذلك اليوم.. غادرنا والدي حاملاً في قلبهِ ألف َغصةٍ وغصة.. لغربة لا مكان لوطنٍ فيها.
غادرني فحملت مرارة الفقدِ منذ الصغر..
عشتُ أشهراً أنقلُ كلمات حبِّ طفلة لأبيها عبر أوراقٍ أجمعها واحدة فوق الأخرى..
أغلّفها بظرف صنعته بيديَّ كي يتحسسهُ والدي لعلّه يخفف من ثقل شوقه لاحتضاني..
أرسلهُ مع أولئك الذين ترغمهم هي أيضاً على استقاءِ مرارةِ الغربة.
ذلك الفقد الذي أدركتُ اليوم أنه كان خطوتي الأولى على الطريق الذي أوصلني إلى مرارة الخسارة التي أتذوقها حين أذكرُ دمشق.
وفي ذكرى أُخرى أذكرُ بيتَ جدي..
في شامي بتلك الأزقةِ الضيقة.. بياسمينتهِ المتدلية على الجدار، وصوتِ الضجيج الحيّ الذي لا ينفكُ يفارق مسامعي حتى اللحظة..
جدي وجدتي.. نحنُ وأبنائهما، وذلكَ الشمل الملتئم في عيد ما.
دعاء جدي.. نظرته.. أمست ذكريات.
غادرنا جدي منذ أشهر.. خطفهُ مرضٌ في رئتيه..
أعلمُ كل العلم أن قهرهُ على فراقِ ابنه كان أفتكَ بجسدهِ من المرض.
ولدهُ المغيبُ منذ أعوامٍ في دهاليزِ تلك المدينة..
هو والآلاف من أبناءِ مدينتنا التي تدعى شام..
شام.. تذكرُ اسمها فيخيل إليك الياسمين والسماء والبياض وأصواتُ العود مع أنغام خريرِ بحيرة في الدار.
لا يا عزيزي..
مديتنا لم تعد هي مديتنا..
شامُ التي أحببت بدل الظالمين ياسمينها شوكاً..
زرعوه في أجساد أبنائها شوكةً فأُخرى.
سماؤها لا تُرى.. فدخان مدافعهم لم يترك لها لون..
أصواتُ العودِ استبدلت بأصواتِ رصاصهم..
أو ربما بصراخ أبنائها المغيبين فيها.
مياه البحرة جفت.. والدار هُدمتْ..
فأسقفها ارتمت.. تاره فوق ساكنيها وتاره أخرى من حنينها.
أما ضجيجها الذي كان ينبئ بالحياة أمسى اليوم إما صوت رصاصٍ يشي بالقتل.. أو صمتاً مطبقاً كالموت.
شام التي أحببت.. لم تعد ذلك الوطن!
أي وطن ذاك الذي لا يعرفُ فيه الطفل ُما تعني الطفولة..
الذي لا يعرف فيه الأبُ هذه أشلاءُ طفلهِ أم لا..
أي وطن، وأي مدينة تلك التي لا تعلم فيها الأمُ كيف تقسم حزنها.. على شهيدٍ أم جريح، معتقلٍ أم مهاجر..
قبح ما حدث وما يحدث لم يعد يذكرنا بما كانت تعني "الشام"
ميزان محبتنا لدمشق كُسر لثقل الظلم الذي رأيناه فيها..
لا أدري إن كانَ شوقنا المغتال قابلاً للحياة بعد هذا.. ولكن الذي أعلمه يقيناً.. أنَّ ظلام القهر يطغى على حنيننا لها.. طعم الذل لا يمكن أن يغلبه شوقٌ لحجارة.. وفقدُ الأحبةِ سلبَ منا ما تعنيه شام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.