لا أحد يطهو السمك مثل أمي، لكني أعيش وحدي بالإسكندرية، أصدقائي يريدون أن نقضي ليلتنا عند "تِكا" المطل على الشاطئ، حيث المشاوي الفاخرة، لكني أقنعتهم أن نتوجه إلى "قدروة"، نختار السمك الذي يحلو لنا، ويُطهى أمامنا.. تناقشنا وتشاجرنا وغضبنا ومزحنا وفرحنا، لم نكتفِ بما أهدرنا من وقت، توجهنا إلى مقهى "ديليس" بالقرب من تمثال سعد زغلول ليذكرنا بأنه "مفيش فايدة"، استمتعنا بالحلوى، احتسينا القهوة ، ثم انصرف الجميع.
توجهت أنا إلى محطة الرمل على بعد أمتار قليلة من مكان افتراقنا، باعة الكتب والصحف والمجلات يفترشون بضاعتهم، أُعرض عنهم جميعًا وأتوجه إلى ممدوح، ما إن يراني حتى يدخل إلى مخبئه ثم يخرج سريعًا محملًا بالكتب الممنوعة، أختار واحدًا ثم اثنين ثم ثلاثة، أشكره وأعود إلى بيتي.
"أنا آسف يا أخي"، عذرته فالمكان ضيق، وخبطته كانت هينة، لكنه أيقظني من حلمي، نحن نلجأ إلى ذكرياتنا عندما يضيق بنا الحال، نعمل على استردادها، وكأننا نعيش نفس الحدث مرة أخرى، لكن الحدث الآن مختلف تمامًا، وقد أعادونا مساء من القسم الذي نُقلنا إليه إلى قسمنا القديم، وها نحن صباح اليوم التالي ننتظر، وقد أبلغونا أنهم سوف يعيدوننا مرة أخرى إلى القسم الجديد بعد أن يتم توزيعنا على زنازينه بطريقة منظمة.
مثل مشهد يوم القيامة، الصالحون إلى الجنة، والطالحون إلى جهنم، لكن هناك من تساوت حسناتهم وسيئاتهم فإلى أين يذهبون؟ كنت ومجموعة أخرى على هذه الشاكلة، فقد تم الاتفاق بين السجن وقيادات الجماعات الإسلامية المختلفة على أن تُقَسّم الزنازين بينهم للحد من المشاجرات، فتصبح كل زنزانة من لون واحد، البعض -وأنا منهم- لا انتماء له، ولذا قرر كبار القوم أن يتقاسمونا، وكان من نصيبي أن ذهبت مع مجموعة من هؤلاء إلى زنزانة الإخوان.
قروي ساذج بهرته أضواء المدينة، هكذا اندهشت عندما دخلت الزنزانة الجديدة، في الطابق الثالث، يطلق عليها "حداشر على تلاتة"، أي الزنزانة رقم إحدى عشرة من الطابق الثالث، الأرض طبعًا مكسوة بالبلاط وليس الأحجار الإسمنيتة، وكل شيء منظم، وهي أكثر اتساعًا، ثمة فارق بين ما كنت عليه وما أصبحت فيه، وجدت في الزنزانة الدكتور "عصام العريان"، والدكتور "إبراهيم الزعفراني".
الأخير هداه الله فانشق لاحقاً عن الإخوان، دون أن يطولهم بأذى أو سباب، في الحقيقة أعترف أنني كنت مأخوذاً ب"مختار نوح"، أحب هؤلاء الذين تتطابق حركاتهم اليومية مع ما يعتقدون، وبغض النظر عما يعتقدون، فكرة أن تكون منسجماً مع نفسك، و"مختار" في نظري كان هكذا، وقد خرج لاحقاً عن الإخوان ووقع ما وقع.
مسألة تقسيمنا بين الجماعات المتعددة أثارتني، كنت أعتقد أنني ملم بخارطة التيارات الإسلامية في مصر، إلى أن اكتشفت في السجن -وذلك كان عام واحد وثمانين- أن في بلدي عدداً كبيراً منها عصي على الحصر، في الزنزانة التي كانت قبالتنا في القسم القديم، كانت هناك إثنتي عشرة جماعة في زنزانة واحدة، يتخاصمون، ولا يُصَلُّون معًا، ويقضون وقتهم في الخلافات الفقهية والمشاحنات التي تتطور إلى الصدام بالأيدي، وكأنهم وضعوا أنفسهم في سجن داخل السجن.
لكن أغرب تلك الجماعات في نظري على الإطلاق هي جماعة "الفرماوية"، إنهم لا يرتدون إلا الثياب الخضراء، ويصلون بطريقة مختلفة، وبعدد لا نهائي من الركعات، ولا أوقات محددة لصلواتهم، ويؤمنون بأفكار غريبة، منها النهي عن العلاج، لأن الله هو الشافي.
في منتصف إحدى الليالي أيقظ أحدهم جاره، قال له عندي صداع سيفتك برأسي، هل يمكن أن تعطيني حبة دواء على ألا تقول لشيخي، كان الشاب يعتقد أنه وقع بذلك في الخطيئة.
ومهما نسيت فلن أنسى هذا اليوم، كانوا قد فتحوا أبواب الزنازين لنقضي فترة كالمعتاد في أوقات الانفراجات، نمشي ونتجول بين الزنازين، شقي انتهز الفرصة وجرى ليخطف عمامة شيخهم الخضراء، هرع الرجل سريعًا إلى زنزانته، واستدعى كل أتباعه، وقرروا الاعتصام والإضراب، وأخذوا يطرقون باب زنزانتهم بالأواني ويرددون الهتافات، أي نفس ما كنا نفعل جميعًا بكل زنازيننا لنطالب بتحسين ظروفنا المعيشية وهم يرفضون المشاركة.
أخذنا الأمر في البداية ببساطة وغلبتنا أمواج الضحك، لكن مأمور السجن جاء إلينا، وهدد بأن يحول حياتنا جحيمًا، وأن يمنع زيارات عائلاتنا لنا، فاجتمع أهل الحكمة ليجدوا حلًّا بعد أن أعياهم صاحبنا الذي خطف العمامة وخبأها في مكان ما، وأخذوا يفكرون في الحلول الممكنة لإنقاذ الأمة من المحنة التي تمر بها.
فجأة، نظر أحدهم إلى الشاب الأنيق الجالس على مقربة منهم بفضول؛ ليعرف أي قرار سيتخذون، وقال له "اقلع يا دكتور أحمد"، لم يفهم أحمد طالب السنة النهائية من الطب طلب الأخ، وبالمناسبة فنحن نقول في مصر للطالب من أول سنة دراسية له في كلية الطب يا دكتور، ودكتورنا دُهِش من الطلب، لقد زارته عائلته قبل أيام وأحضرت له بيجامة خضراء جميلة كان يسير بها متباهيًا في أرجاء السجن.
بعد محادثات مطولة، وتبرُّع البعض بملابس بديلة لأحمد، أخذ أحدنا بيجامة الدكتور وبدأ في تفصيلها عمامة وأُهْدِيَت إلى كبيرهم ، وتوقف الإضراب والهتافات.
كيف تعتقد الدولة أن مثل هؤلاء خطر على أمنها؟! هل هؤلاء يحتاجون سجنًا أم مدرسة؟ أستطيع أن أجزم أن الغالبية المطلقة ممن حولي لم ترتكب حماقة بمفهوم الدولة، عجائز في السبعين من أعمارهم، وأطفال دون الثالثة عشر، وباعة جوالون بسطاء، ورجال أمن سابقون، ما الذي يجري فيكِ يا مصر؟
قال لي أحدهم وهو من الإسكندرية "ذهبنا إلى عرس في كفر الدوار، كنا مجموعة، ولما عدنا أنزلتنا السيارة أمام مسجد صغير، فقلنا نصلي وننصرف، كان المصلون ينهون صلاة العشاء، فأقمنا صلاتنا، وما إن أتممناها حتى وجدنا المسجد مغلقاً علينا، دُهِشنا، ظللنا نطرق الباب، لم يفتح أحد، كنا في حيرة إلى أن فُتح الباب.. فإذا بقوات الأمن تلقي القبض علينا، لقد شك إمام المسجد فينا عندما وجد بعضنا ملتحيًا، فأغلق الباب علينا وذهب للإبلاغ عنا". أيها السادة.. ما المطلوب منا الآن أن نضحك أم نبكي؟!
نودي على اسمي، أصابني الهلع، ثم أُبْلِغت بالنبأ السعيد: زيارة، كان ذلك بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الاعتقال، دق قلبي، إذن عرف أهلي مكاني، ترى مَن أتى، حُشرت مع الجموع في حجرة ضيقة مغطاة بالقضبان والأسلاك، كالدجاج في قفص، هو الشعور الذي يصيبك في هذه الحالة، ظللنا ننظر في اتجاه باب السجن، من هنا ستدخل عائلاتنا التي تقضي ساعات طويلة في الانتظار، وإجراءات التصاريح، وبعد كل صنوف الإهانات من العساكر والضباط، وبعد التفتيش الدقيق الذي يخلط الأطعمة ببعضها ويصادر ما يصادر..
فُتح الباب فجأة فاندفع الأهالي وسط صيحات العساكر وسبابهم، أدقق في الداخلين، آه إنه أخي، اندفع نحوي في جنون، أخذ يقبل ما يمكن أن يصل إليه من وجهي عبر هذه الأسلاك، راح يتفحصني بتلهف، يريد أن يطمئن أن جسمي ما زال مكتملًا، سألني وسألته، وكلانا كذب، لم أكن بخير، ولم تكن عائلتي بخير منذ أن جاءها الخبر.
أما زيارتي الأخيرة فقد كانت أفضل حالاً من حيث المكان، أجلسونا على الأرض مقتسمين الأنحاء، كالعادة أدقق في الداخلين لأعرف من القادم، اشتُهرت بين الزملاء أن عائلتي لا تتأخر يومًا عن موعد الزيارة المسموح مرة كل أسبوعين، يا إلهي، إنها أمي تأتي لأول مرة بصحبة أخي، تمشي بصعوبة، تملكني البكاء، كدت أصرخ محذرًا، لا أريد لأيدي آثمة أن تمتد إلى هذا الصرح.
جلست أمي مضطربة، كل المشاعر لديها، الحزن والغضب والتعب والقلق، "ماذا فعلوا بك؟".. نطقنا في نفس اللحظة، لم تدخل أمي قسم شرطة من قبل، لم تتعامل مطلقًا مع البوليس، كانت حكيمة عائلتنا الكبرى، أمي كانت بسيطة جدًّا، عظيمة جدًّا، إلى حد أن قبلة على قدميها تمنحني الحياة.
بعد كل زيارة تصبح الزنزانة أشبه بالمأتم، ثمة عواطف جياشة تجتاح العائدين من الزيارة واحدًا تلو الآخر، وثمة أخبار سيئة، هذا توفي والده، وهذا فارقته حبيبته، وهذا فقد فرصة العمل التي كانت معروضة عليه في إحدى الدول الخليجية، وذاك فُصل من وظيفته، وهذا ضاعت عليه منحته الدراسية، حتى خبر الفرح يصيب صاحبه بالحزن، قال سعيدًا وهو يدخل الزنزانة: لقد وضعت زوجتي طفلنا الأول، تقدمنا إليه نهنئه، زغرد أحدهم، نهاه آخر صارخًا لا يجوز شرعًا، لكن صديقنا انفجر بالبكاء فجأة، "كنت أتمني أن أكون هناك، أحتضن أول طفل لي".
أسعد طه
الجزء الأول من "باب ما وراء الشمس" اضغط هنا.
الجزء الثاني اضغط هنا.
الجزء الثالث اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.