تقلد سبستيان الأول عرش الإمبراطورية البرتغالية عام 1557، وكان نفوذها آنذاك يمتد على الأمريكيتين وسواحل إفريقية وآسيا والمحيط الهندي وبحر العرب وخليج عمان وجميع الموانئ في المنطقة مما عزز دور الإمبراطورية البرتغالية، فأراد السيطرة على شمال إفريقية وضمها للإمبراطورية، وتطويق الخلافة العثمانية من الغرب، فأرسل سبستيان لخاله فيليب الثاني ملك إسبانيا يطلب منه المشاركة في حملة صليبية جديدة على المغرب كي لا يُحاول العرب دخول الأندلس مرة ثانية بمعاونة العثمانيين بعد أن حكموها ثمانية قرون، فكانت بالنسبة له حربا مقدسة يرغب من خلالها أن يرفع شأنه أمام البابا، وبين ملوك أوروبا.
وكان يحكم المغرب في ذلك الوقت محمد المتوكل على الله في ظل الدولة السعدية وكان ظلوما غشوما مواليا للاسبان والبرتغال وغيرهم من الصليبين، وكان قد شكل معهم حلفا لصد أي حملة للعثمانيين لضم المغرب للدولة العثمانية، وكان مقصده من كل ذلك الحفاظ على سلطانه في المغرب، فأرسل السلطان العثماني سليم الثاني جيشا من الجزائر لخلع المتوكل وتولية عمه أبو مروان عبدالملك مكانه وضم المغرب للدولة العثمانية وصد جيش البرتغال.
وعندما دخل أبو مروان عبد الملك المغرب مع الأتراك، انتصر في معركة قرب مدينة فاس، ودخلها وولى عليها أخاه أحمد المنصور، ثم ضم مراكش، ففر المتوكل إلى طنجة مستنجدا بملك البرتغال سبستيان الأول، بعد أن رفض ملك أسبانيا مساعدته.
طلب سبستيان مددا من خاله ملك أسبانيا فوعده أن يمده بالمراكب والعساكر وأمده بعسكر من الإسبان، وكان قد خرج مع سبستيان آلافٌ من البرتغال، كما أرسل إليه الإيطاليون والألمان مددا، وبعث إليه البابا بجموع من المتطوعين، وجمع سبستيان نحو ألف مركب ليحمل هذه الجموع إلى أراضي الدولة المغربية، وقد حذر ملك أسبانيا ابن أخته عاقبة التوغل داخل أراضي المغرب بعمق ولكنه لم يلتفت لذلك.
وصلت السفن الصليبية إلى ميناء طنجة وفيها لقي سبستيان حليفه المتوكل، ثم تابعت السفن سيرها إلى أصيلة، واستشار سبستيان أصحابه فأشاروا عليه أن يتقدم إلى تطاوين والعرائش والقصر الكبير ويغنم ما فيها ويحتمي بها، ولكن سبستيان لم يفعل، وكتب أبو مروان عبد الملك إلى أخيه أحمد أن يخرج بجند فاس وما حولها ويتهيأ للقتال، وسار جند مراكش بقيادة عبد الملك، وكان اللقاء قرب محلة القصر الكبير، وضم الجيش المغربي مقاتلين من أهل فاس ومراكش والأندلس وبعض قبائل العرب وبعض الجزائريين.
اختار عبد الملك القصر الكبير مقراً لمعسكره، ثم كتب إلى سبستيان مستدرجاً له "إني قد قطعت للمجيء إليك ست عشرة مرحلة، فهلا قطعت أنت مرحلة واحدة لملاقاتي"، فنصحه المتوكل ورجاله أن لا يترك أصيلة الساحلية ليبقى على اتصال بالمؤن والعتاد والبحر ولا ينقطع عنه المدد، ولكنه لم ينصت لهم أيضا وتحرك قاصداً القصر الكبير، حتى وصل جسر وادي المخازن حيث أقام معسكره قبالة الجيش المغربي، فنسف جند عبدالملك قنطرة جسر وادي المخازن ليلا، والوادي لا معبر له سوى هذه القنطرة.
وفي صباح الإثنين 4 أغسطس 1578 ركب السلطان عبد الملك فرسه يحرض الجيش على القتال رغم مرضه الشديد، وقام القساوسة والرهبان بإثارة حماس جند أوروبا مذكرين أن البابا أحل من الأوزار والخطايا أرواح من يلقون حتفهم في هذه الحروب وانطلقت عشرات الطلقات النارية من الطرفين كليهما إيذاناً ببدء المعركة. مال جيش المغاربة بمقدمة الجيش على مؤخرة البرتغاليين وبالفرسان على جانبيهم في مناورة تطويقية، واتجهت موجة أخرى ضد رماتهم في المقدمة والقلب فقتل العديد منهم، واضطرب الجيش الصليبي بشدة، وهربوا من أرض المعركة إلى قنطرة نهر وادي المخازن لركوب الأسطول والفرار، ولكنهم فوجئوا بتهدمها، فقفز معظم الجيش الصليبي في النهر هرباً من سيوف المسلمين، فغرقوا في مياه النهر.
ومع احتدام القتال في أرض المعركة، والجهد الشديد الذي بذله في النزال، لم يستطع عبدالملك مواصلة القتال فحملوه إلى خيمته وهو في النزع الأخير، حتى فاضت روحه وأخفى أخوه أحمد المنصور خبر موته حتى لا تنهار معنويات الجند أمام عدوهم، وتولى القيادة مكانه.
وقُتِلَ سبستيان، ملك البرتغال وألوف من حوله بما فيهم كثير من نبلاء البلاط وقادة الدولة البرتغالية يومها بعد أن صمدوا طويلا، وحاول المتوكل الفرار شمالا فوقع غريقا في نهر وادي المخازن ووجدت جثته طافية على الماء.
وهكذا لقي في هذه المعركة ثلاثة ملوك حتفهم هم عبد الملك وسبستيان والمتوكل ولذا عرفت بمعركة الملوك الثلاثة أو معركة وادي المخازن، وفقدت البرتغال ملكها وجيشها ورجال دولتها، واستغل فيليب الثاني ملك إسبانيا الفرصة وقام باحتلال الإمبراطورية البرتغالية سنة ١٥٨٠م، وضمها لاسبانيا.
وكان من آثار المعركة أن خصص يهود المغرب اليوم الثاني من بداية شهر سبتمبر احتفالا بانهزام البرتغاليين، يسمونه بوريم سيباستيانو، إذ يرون أنه قد جرت فيه معجزة إلهية أنقذهتم من مذبحة، فوفقا للتقاليد، وعد سبستيان أنه "إذا انتصر وفتح المغرب، سيذبح بالسكين كل يهودي لا يقبل التنصير"، وكان تخوفهم من إنشاء محاكم تفتيش برتغالية بالمغرب، ويُحتفلُ بهذا العيد سنويا وتغلق فيه المحلات ويتوقف العمل ويتصدقون فيه على الفقراء، ويدعون في صلاتهم بالخير لسلطان المغرب.
أدت هذه المعركة لتأمين حدود دولة الإسلام من ناحية الغرب، وسقطت على إثرها إمبراطورية البرتغال سياسيا وعسكريا وضُمت لإسبانيا، وهنا يقول المؤرخ البرتغالي لويس ماريه "وهو العصر النحس الذي انتهت فيه مدة الصولة والظفر والنجاح، وانتهت فيه أيام العناية من البرتغال، وانطفأ مصباحهم بين الأجناس، وزال رونقهم، وذهبت نخوتهم وقوتهم، وخلفها الفشل الذريع، وانقطع الرجاء، واضمحل الغنى والربح، وهو ذلك العصر الذي هلك فيه "سبستيان" في القصر الكبير في بلاد المغرب".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.