حبوب منوِّمة للمشاهدين العرب!

تغيب روح المشاركة عن المشهد الإعلامي العربي، ولا يحوز المشاهدون فرصاً ذات شأن للتأثير في التدفقات التي تهيمن على أبصارهم وأسماعهم. فلم تكترث الجماهير العربية حتى الآن بضرورة المشاركة الإعلامية،

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/10 الساعة 05:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/10 الساعة 05:25 بتوقيت غرينتش

يطيب للصناعة الإعلامية أن تتحدث عن امتيازات "السلطة الرابعة"، لكنها تتحاشى توعية الجمهور بحقوقه في المناقشة أو تمكينه من النقد والاعتراض على الضخ الكثيف المتدفق عبر الأسماع والأبصار.وما زال المشاهدون العرب يتسمرون إزاء شاشات تصرفهم عن الواقع، ويُراد لهم أن يظلّوا عالقين في مأزق الفُرجة والتصفيق واستهلاك ما يُقدّم لهم بلا مناقشة..

وقد أتقنت محطات عربية مهنة توزيع الحبوب المنوِّمة على الجماهير، ففي شاشاتها يبدو العالم العربي بهيجاً وملوّناً وحافلاً بالإنجازات..

تنهمك أطياف من الفضائيات في إشاعة مشاعر الرضى، ونقل المشاهدين إلى عوالم افتراضيّة صاخبة من الأضواء والألوان والمعزوفات. تشي التغطيات والبرامج بالبهجة الغامرة، حتى تبعث عن الرضى بالواقع الذي يُخيّل أنه يستدعي احتفاليات متواصلة وابتسامات عريضة. فما يجري في زمن "تحرير" البثّ من مقص الرقيب هو المسلك ذاته المعهود منذ زمن الرقابة، وهو تحاشي تذمّر الجمهور المكبوت، والسهر على تصريف نوْبات الغضب قبل اندلاعها.

يتولى رأس المال الإعلامي المهمة على أتمَّ وجه. إذ تمتلك مجموعات اقتصادية معدودة في الواقع العربي، قدرة هائلة على الهيمنة على المنتجات الإعلامية والفنية، وتباشر تنميط الذوق العام وصناعة النجوم في كل موسم كما يفعل مصممو الأزياء بملابس الجماهير. ومن يجرؤ على مساءلة ديناصورات الصناعة الإعلامية والإعلانية والفنية والغنائية، أو مناقشة اختياراتها أو الاعتراض على ما تفرضه على الجمهور؟

تبقى الأولوية في ما يتم تقديمه عبر الشاشات لاختيارات رأس المال الإعلامي، إذ تهبط قرارات السادة الجالسين في المكاتب العليا دون كوابح. ويتم الاستعانة باستطلاعات الرأي وبحوث السوق خلال محاولة تكييف استجابة الجمهور وترويضه، لفرض أنماط بعينها من الاختيارات الاجتماعية والذوقية والاستهلاكية على المشهد العربي دون نقاش.

تخلّى الجمهور العربي عن حقه في النقد والاعتراض على ما يستهدفه من تدفقات عبر أكثر من ألف محطة. ولا يرى الجمهور آليّات تنظيمية أو مشروعات قوانين تعزز مصالحه أو تتيح شروطاً أكثر توازناً لعملية المشاهَدَة. أما المقولات النبيلة ومواثيق الشرف الإعلامي، فتبدو شعارات جميلة تتباهى بها وسائل إعلام وقنوات لا يضطرها أحد لأن تعمل بمقتضاها.

يواصل المشاهدون العرب انكفاءهم في خانة التلقي، بلا مشاركة في صياغة واقعهم الإعلاميّ، الذي يغمر أسماعهم وأبصارهم، دون التعبير عن اهتماماتهم أو تمثيل مصالحهم. يجري هذا في واقع عربي يخلو أساساً من تقاليد الحوار المجتمعي الجادّ. وبهذا تنزوي جمهرة العرب في ركن الخضوع غير الواعي للمؤثرات مع التدفقات الكثيفة؛ دون أن يدرك المشاهدون فرصهم في النقد والاعتراض.

ولا ترفع النخب العربية أصواتها للمطالبة بالتقويم الشامل أو المراجعة الموضعية للقوالب والتدفقات الإعلامية وما تضخّه من مؤثرات إلى الأجيال. إنها نخب ضالعة في تهميش الجمهور، لأنّ ما ترجوه أساساً هو تمكينها من الظهور في الشاشات، فهي لا تتوانى عن شكر القنوات ومقدمي البرامج على "الاستضافة الكريمة".

لكنّ بعض القنوات تمنح انطباعاً مضللاً بأنّها تحترم اختيارات الجمهور وتراعي آراءه خلال تصميم عملية البث والتلقي. والحقيقة هي أنّ القرار يقع بين أيدي مخرج البرنامج ومنتجه وإدارة القناة التي تبثه، ومن ورائهم الجهة الممولة وربما أذرع السلطة. يتصرفون جميعاً بصلاحيات مطلقة تقريباً في تصميم البرنامج وتحديد محاوره ومحطات النقاش المقررة سلفاً.

أما الفرص المتاحة للمشاركة بالرأي، فهي ممنوحة للفرد المعزول عن سياقه، أي لأفراد متفرّقي الأهواء وليس للجماهير أو لفئات منها. فالقوم في الصناعة الإعلامية العربية لا يحتملون غالباً مواجهة إرادات جماعية أو مواقف متماسكة في أوساط الجمهور. يجري في المقابل الترحيب الأجوف بالآراء المتفرقة، كل على انفراد، من خلال فرص الاتصال بالبرامج مثلاً أو انتقاء تغريدات بعينها وتقديمها في هيئة التعبير عن الجماهير ككل.

وتأتي تقاليد "استضافة الجمهور" في بعض البرامج مشروطة بالصمت أو التصفيق، ولا مجال لاعتراض من أحدهم بالطبع. يتحاذق بعض مصممي البرامج بتمكين الجمهور المستضاف من استعمال حقه "الديمقراطي"، مثلاً بالضغط على أزرار ملونة للمفاضلة بين إجابات مجهزة سلفاً في المحطات.

وهكذا يمضي الضخ الإعلامي بلا إشارات حمراء من جانب المشاهدين العرب، الذين لم يكتشفوا بعد قدراتهم الذاتية على التصرف والتأثير والاعتراض. فلا توجد برلمانات أو مجالس تعبر عن المشاهدين، الذين ظلوا مكشوفين إزاء الضخ الذي يقرره الجالسون في مكاتبهم العليا. فالبثّ "يستهدف" الجمهور وكأنه منزوع الإرادة، أو مجرد مستهلك سلبي لما يقتحم عليه حياته اليومية، بلا نقاش.

تغيب روح المشاركة عن المشهد الإعلامي العربي، ولا يحوز المشاهدون فرصاً ذات شأن للتأثير في التدفقات التي تهيمن على أبصارهم وأسماعهم. فلم تكترث الجماهير العربية حتى الآن بضرورة المشاركة الإعلامية، رغم أنّ تفكيك منظومة الاستبداد يبقى مطلباً حالماً مع إعفاء مراكز النفوذ الإعلامي من المساءلة.

انكفأ المشاهدون العرب في خانة التلقي بلا مشاركة في صياغة الواقع الإعلامي الذي يغمرهم، ولم يبادروا إلى التصرف في مواجهة التدفقات الكثيفة التي تضخّها تحالفات السلطة والمال ومراكز النفوذ، رغم مروق بعض المنابر الإعلامية من الالتزامات الأخلاقية وانفلاتها من المعايير الإنسانية، وتنكّرها لحقوق الشعوب وحريّاتها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد