اليابانيون.. كيف ولماذا؟ “2”

فالتعبير عن القناعة الشخصية ليس هو الشيء الأهم بالنسبة للشخصية اليابانية. فالأهم هنا أن تكون قادراً على قراءة ما يساور الآخرين من مشاعر وأفكار بشكل مسبق دون أن تعبر عن ذلك بكلمات أو عبارات مباشرة

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/08 الساعة 06:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/08 الساعة 06:57 بتوقيت غرينتش

في لحظات الهدوء القليلة التي أستمتع بها أناء الساعات المتأخرة من الليل بعد انقضاء نهار مليء بالعمل المتواصل في الجامعة، فتحت الحاسوب لكتابة الجزء الثاني من مقالتي التي عنونتها "اليابانيون.. كيف ولماذا؟". فرجعت بذاكرتي إلى الوراء وإذا بي أتذكر حالي عندما كنت حديث العهد باليابان. فقد كنت أطرح الكثير من الأسئلة والتساؤلات وأتحدث على سجيتي بطبيعتي المصرية الشغوفة لمعرفة أحوال من هم حولي حتى أقلص المسافة بيني وبينهم وأقترب منهم ويقتربوا مني، فأعرفهم ويتعرفون عليّ أكثر فأكثر. لكن ما وجدته في انتظاري في هذه الثقافة، التي هي جزء أيضاً من الثقافة الشرقية كان على غير توقعاتي، فالحكمة الشهيرة في ثقافتنا العربية والتي يعرفها أغلبيتنا ولكنها لا تطبق على أرض الواقع في أغلب الأحيان والمتمثلة في أن خير الكلام ما قل ودل، تفرض هنا في اليابان قانونها.

فاللغة اليابانية بطبعها لغة لا تقبل الإطناب أو طول الكلام أو الثرثرة، مما يجعلك دائماً تفكر فيما ينبغي أو لا ينبغي أن تتفوه به، وذلك للحفاظ على العلاقة الاجتماعية والمسافة المطلوبة للتواصل مع الآخرين.

ونستطيع أن نرى ذلك ونلمسه بوضوح وبشكل عملي في ثلاثة أنماط سلوكية تمثل ركيزة التعامل الإنساني في منظومة التواصل الاجتماعي الياباني، لا سيما أن هذا التعامل قائم على فرض فلسفة الفكر الجماعي الذي يعطي الألوية لتحقيق الوئام والتناغم بين أفراد المجتمع على حساب تحقيق الرغبات والحريات الفردية.

وهذه الأنماط السلوكية يمكننا تقسيمها إلى ثلاثة أنماط:

النمط الأول يعبر عنه باللفظ " enryo"
النمط الثاني يعبر عنه باللفظ "hairyo"
النمط الثالث والأخير يعبر عنه باللفظ "Kenkyo".

دعونا نتعرف على طبيعة هذه المفاهيم وتأثيرها في تحديد سلوكيات الشخصية اليابانية وكيفية تعاملها وتواصلها مع الآخرين .

  • -النمط السلوكي الأول "Enryo" أو الحديث الصامت

لن أبالغ إن قلت إنني ما زلت أقابل هذا السلوك في كل مشهد من مشاهد الحياة التي تمر علي يوميًّا هنا في اليابان، ولا يقتصر الأمر على ذلك فقد أصبحت أنا أيضاً أؤديه ببراعة داخل مشاهد الحياة المختلفة من خلال تعاملي مع الآخرين في المجتمع.

تخيل نفسك على سبيل المثال تشارك في اجتماع ما، حيث تناقش أمراً يتعلق بفكرة أو موقف معين، وعلى الرغم من أن الطرف الآخر لا يتفق معك في الرأي ستجده ممعنا في السمع ولا يتخذ أي خطوة لمقاطعة حديثك حتى النهاية، وغالباً حتى ما بعد النهاية، وأعني هنا أنك في نهاية المطاف ستجده ملتزماً بعدم الإفصاح عن رأيه أو التعبير عن مشاعره بشكل يجعلك غير قادر على استنتاج أو قراءة أفكاره تجاه ما طرحته. وعلى النقيض من ذلك ستجده إما صامتاً أو مجارياً لك بعبارات بنكهة دبلوماسية رفيعة المستوى.

ولا شك أن هذا النمط من أنماط الحوار وتجاذب أطراف الحديث تكون نتيجته خلق جو قادر على تحقيق التوافق النسبي بين أفراد المجموعة الواحدة أو المحيط الواحد. وينبع هذا السلوك الاجتماعي من قاعدة فكرية راسخة في أعماق العقلية اليابانية تجعل الفرد الياباني دائماً يفكر في عواقب ما سيقوم به من تصرفات أو أفعال تجاه الآخرين سواء كان ذلك في نطاق العمل أو في حيّز العلاقات الاجتماعية المختلفة . فكلمة "enryo" تجعله دائماً يفكر على النحو التالي: "هل ما سأقوم به من فعل أو أتفوه به من حديث سوف يسبب قلقاً أو إزعاجاً للآخرين، إذاً عليّ أن أؤجل الحديث فيه أو الإفصاح عنه إلى وقت آخر مناسب".

.. وهكذا تجد الياباني دائماً متردداً في اتخاذ القرار أو البث في أمر يتعلق بالإفصاح عن رأيه أو قناعاته، وذلك لأن الإفصاح عن القناعات الشخصية لا يحظى بمقدار كبير من التقدير والاهتمام في ميزان قيم الأعراف الاجتماعية في اليابان.

فالتعبير عن القناعة الشخصية ليس هو الشيء الأهم بالنسبة للشخصية اليابانية. فالأهم هنا أن تكون قادراً على قراءة ما يساور الآخرين من مشاعر وأفكار بشكل مسبق دون أن تعبر عن ذلك بكلمات أو عبارات مباشرة، جاعلاً دائماً من تصرفاتك أداة لمراعاة مشاعر وظروف الآخرين، ملتزماً في ذلك بالأعراف الاجتماعية المحددة لأخلاقيات المجتمع الياباني، ودعوني أطلق على هذا النوع من التواصل اسماً نوعيًّا وهو "الحديث الصامت".

  • -النمط السلوكي الثاني "Hairyo"

النمط الثاني والذي يأتي ضمن تركيبة الأنماط السلوكية الثلاثة التي أشرت إليها فيما سبق، هو مفهوم سلوكي يعرف باسم "hairyo"، وهو أيضاً يقترب في معناه ومضمونه من مفهوم "enryo" السابق، وهو نمط سلوكي خاص يظهر في آداب التواصل مع الآخرين ولا يقل أبداً في أهميته عن مفهوم
"enryo" في مدى ومقدار تأثيره على ديناميكية التواصل بين الأفراد في المجتمع الياباني. ويمكن أن نلخصه في تعبير بسيط وهو "مراعاة أمور وأحوال الآخرين".

والفارق بين هذين النمطين السلوكيين وأعني "enryo" و"hairyo" هو أن مفهوم "hairyo" يعتمد ببساطة على مدى قدرة الفرد على التصرف بشكل يمنع بشكل وقائي التصادم مع الآخرين. فالأهم هنا هو عدم الاصطدام وعدم إتاحة الفرصة لأي عامل شخصي يسمح بإحداث صدام أو خصام بين أفراد المنظومة الواحدة أو المجتمع الواحد، وذلك من خلال كبح جماح الرغبات الشخصية وتفضيل الحفاظ على حالة التوافق والوئام بين الأفراد عن أي شيء آخر.

وأؤكد هنا على أن الحفاظ على حالة الوئام والتوافق ليس معناه الحفاظ المطلق، ولكنه حفاظ وقتي يتم ربطه بمكان التواصل، فمثلاً في حالة استيائك من شخص ما ممن هم حولك سواء كان هذا الاستياء شخصيًّا أو فكريًّا ففي هذه الحالة وفي أغلب الأحوال لن يقوم الآخر بالتعبير عن هذا الاستياء لك بشكل مباشر، وذلك لأن الأهم في هذه الحالة هو عدم إفساد حالة الوئام والتوافق الجماعي القائم في مكانه وزمانه. لذا من المرجح أن يقوم هذا الشخص بمحاولة إعلام الطرف الآخر باستيائه تجاهه بطريقة غير مباشرة، وذلك عن طريق إخبار طرف ثالث مشترك بينهما باستيائه وعدم رضاه وذلك حتى يتفادى احتمالية الصدام المباشر معه. ونستطيع أن نطلق على هذا النوع من التواصل القائم على تغليب حالات الوئام والتوافق المرتبط بمكان ووقت معين اسم "الوئام المكاني" الذي يهتم بالحفاظ على حالة الوئام للمكان (أماكن العمل أو الدراسة أو الأنشطة الاجتماعية وغيرها) الذي يجمع أفراد مجموعة ما تقوم بالتواصل فيما بينها. وهنا تأتي أهمية مهارات قراءة أفكار ومشاعر الآخرين والمناخ المحيط بهم، وذلك من أجل العمل على تلافي كافة أوجه الصدام المباشر، انطلاقاً من قاعدة احترام إرادة ورغبة الآخر.

ويمكن أن نشرح ذلك بمثال عملي كالآتي: إذا تخيلنا أن لدينا ثلاثة أشخاص يجمعهم حوار مشترك لاتخاذ قرار بشأن مقترحات لمشروع ما، هنا سوف يحاول كل فرد منهم أن يستشف آراء الآخرين مع التزام الحذر في عدم الإفصاح عن رأيه بشكل مطلق وذلك حتى لا يتسبب في إحداث قلق أو صدام مع الآخرين أو مع الشخص صاحب المقترح فقد يكون من بينهم من هو مختلف معه في الرأي ويبدأ كل منهم بالحديث عن المقترحات الأخرى، والتي من المحتمل أن تكون أقل جودة أو أنها لا بأس بها ولكنه يرى أن ظروف المشروع الحالي تتناسب أكثر مع المقترح المطروح وليكن "المقترح باء" وهكذا تراه يستخدم تعابير غامضة غير جازمة أو مطلقة في معناها ومحافها مثل قد يكون..، ويمكن..، هذا لا يعني أنه ليس جيداً بل..، على هذا النحو.
ويتبقى لنا الحديث عن النمط السلوكي الثالث وهو ما يعرف باسم..
وإلى لقاء في الجزء الثالث إن شاء الله تعالى.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد