قبل خمسة عشر عاماً كتبت عن حارة اتفق أهل مدينة الرقة على تسميتها بـ"حارة الحرامية"، ربما ليس لتوصيف حالة غالبية سكانها فقط، بل كنوع من التحدي، والرفض الصامت لتسمية أحد أهم شوارع المدينة باسم باسل الأسد نجل حافظ الأسد الذي توفي في حادث مروري بسبب جرعة زائدة من المخدرات، ومع ذلك فقد فرضت سلطة حافظ الأسد إطلاق لقب الشهيد على شاب لم يكتمل نضوجه العقلي، لكنه كان الأكثر شبها بأبيه، والأكثر تمثيلاً لنظام أبيه الأمني القمعي، الذي أذاق السوريين كل صنوف الترهيب والتفسيد..
حارة سهلت على سائقي التاكسي البحث عن عناوين زبائنهم، حيث يكفي أن تطلب من السائق توصيلك إلى بيت فلان أو علان في "حارة الحرامية " لتجد نفسك واقفاً أمام بابه.. "حارة الحرامية" تلك بناها متعهدو البناء في منطقة غرب المدينة، وتشاء المصادفة أن يكون أصحاب تلك البيوت من مشاهير الموظفين العاملين في الدولة، الذين أبدعوا باختراع طرق متنوعة لسرقة جيب المواطن وخزائن دوائرهم، وهذه الحارة موجودة في كل مراكز المدن السورية، لكن -والحق يقال- وحدهم أهل الرقة استطاعوا، من بين كل السوريين، تداول هذه التسمية، واعتمادها رغم أن كل شوارعها وأزقتها مسماة بأسماء مسروقة من بطون كتب التاريخ، أو بأسماء شخصيات اعتبرها البعث السوري ونظام الأسد تاريخية!
الجديد في هذه الحارة، والذي يعود الفضل فيه الى بشار الأسد ومواليه من شتى الأصناف، أنها أصبحت اليوم حارات تمتد على كامل مساحة سورية، وتختص كل واحدة منها بأنواع من المسروقات وطرق للسرقة تختلف عن غيرها، وذلك تماشياً مع سياسة الابن في التطوير والتحديث.
حارة أسواق السنة :
حارة مختصة ببيع ما يتم "تعفيشه" (التعفيش مصطلح دارج يعني قيام جنود جيش النظام ومؤيديه بالسرقة العلنية بحماية من الجهات المختصة) من بيوت أهل السنة في المناطق التي يقتحمها، ويحتلها النظام وأعوانه ويطرد سكانها من بيوتهم.. حرامية هذه الحارة هم جنود جيش النظام السوري، وعناصر حزب الله اللبناني، ومنتسبو كتائب أبو الفضل العباس العراقية، والجنود الإيرانيون والأفغان، وعناصر ما يسمى الدفاع المدني، وجميع من اصطلح على تسميتهم "شبيحة".
تمتاز هذه الحارة بالبيع "على المكشوف" وتحت سمع ونظر ما تبقى من هيبة السلطة (!!) وكل البضائع المتنوعة المعروضة فيها مسروقة من بيوت أهل السنة، الهارب منهم من جحيم القصف، أو المعتقل بتهمة لم يرتكبها، أو لأنه داوى جريحاً، أو الذي استشهد ببرميل متفجر من البراميل التي تلقيها طائرات النظام.
حارة سرقة الآثار وبيعها :
وهذه حارة مشتركة، أبرز عناصرها عناصر النظام ومؤيدوه، وعناصر داعش ومؤيدوها، ويعرف السوريون أن رائدها الأول هو رفعت الأسد الذي أورثها بعد خروجه للعديد من أبناء عائلة الأسد وأنسبائهم.
بضائع هذه الحارة قطع أثرية متنوعة تعود لعصور مختلفة، بعضها تم سلبه من متاحف المدن التي سقطت في يد داعش، كمتحفي الرقة وتدمر، وبعضها من متاحف المدن التي ما زالت تحت سلطة النظام، حيث يجري استبدال القطع الأصلية بقطع مزورة وشحنها إلى لبنان ومنها إلى بلدان العالم. ويضاف لمحتويات المتاحف ما يتم اكتشافه عن طريق البحث والتنقيب العشوائي الذي صار من سمات بعض المناطق السورية، الغنية بالآثار.
حارة حرامية السلاح :
هذه الحارة مشتركة بين النظام وبعض الكتائب التي تسانده وقليل من الكتائب التي تعاديه. والقصص كثيرة ومنشورة عن قادة ألوية باعوا محتويات مخازنهم، وجنود باعوا أسلحتهم وفروا، أو عناصر من حزب الله باعوا ذخائر أسلحتهم، أو كتائب مقاتلة استولت على مخازن حررتها وأعادت تدوير بيعها للنظام، والكل يعرف أن طائرات ودبابات استولت داعش عليها من مطار الطبقة اختفت بقدرة قادر ولم يعرف مصيرها بعد.
حرامية تجارة الأعضاء البشرية والمختطفين :
هذه الحارة أبطالها أطباء المشافي خاصة العسكرية منها، ورؤساء الأجهزة الامنية وقادة كتائب التشبيح. تعتمد الاجهاز على الجرحى المصابين في المعارك ممن لا سند لهم ولا بواكي، وعلى خطف أشخاص يجري البحث جيدا عن أوضاعهم المالية، وبعد الاختطاف يجري الإفراج عنهم مقابل ملايين الليرات، ومؤخرا بعد انهيار الليرة السورية ، تم اعتماد الدولار واليورو في تنفيذ الصفقات. اشتهر من أبطالها رؤساء الأجهزة الأمنية في حلب وحمص، وزعران الدفاع الوطني الموالي للنظام في منطقة السلمية.
حرامية تهريب البشر:
هذه الحارة منتشرة في الداخل وفي دول الاغتراب وزبائنها من الفارين من جحيم الحرب؛ بحثاً عن لجوء إنساني في الدول الأوروبية، وهذه الحارة تديرها مافيات تهريب محترفة وهاوية، ومجالها الحيوي الأكبر هو مدن البحر المتوسط، الذي التهم الألوف من الذين يتفنن المهربون في ابتداع طرق لابتزازهم، غيرعابئين بمصائرهم سواء وصلوا إلى وجهاتهم، أم ابتلعهم البحر.
حرامية بيع الطعام الفاسد :
أبرز المتحكمين في هذه الحارة هي شركات الأغذية التي يمتلكها المقربون من النظام، وسوقها الأساسي وزارة الدفاع السورية، التي تعاقدت مع هذه الشركات لتقديم احتياجات ألوية الجيش من الفروج واللحوم والبرغل والمرتديلا والخضار، وكثيراً ما نشر الإعلام صوراً تثبت فساد هذه المواد، وتبين بوضوح، كمية الحشرات التي فيها، لكننا لم نسمع أو نقرأ عن محاسبة لهذه الشركات، أو إنهاء العقود معها. وهي عادة درج النظام عليها من زمن بعيد يعود لأيام مؤسسيها أبناء طلاس وزير الدفاع السوري الأسبق، صاحب الغزوات الجنسية المشهودة، ومبدع ليالي الفن الحمراء.
حارة حرامية البترول والغاز:
هذه من أغرب الحارات، صاحبها الأساسي داعش التي باتت تحتل أغلب مناطق استخراج البترول والغاز بعد أن طردت قوات النظام منها، لكن الطريف في الحارة أن الزبون الوحيد فيها هو النظام نفسه، طرقها معروفة، وسماسرتها معروفون، ويتنقلون بحرية بين مناطق النظام ومناطق داعش، ومؤخرا صارت الطائرات الروسية أبرزحماة شاحناتهم.
حارة حرامية الدواء الفاسد :
أصحابها قلة من أصحاب معامل الدواء الذين تمكنوا من نقل معاملهم الى مناطق يسيطر عليها النظام، ونتيجة شح وغلاء المواد الداخلة في تركيب الأدوية التي تنتجها، فإن عين الرقابة عليها نائمة، لذا فإن منتجاتها لا تحقق أبسط شروط الدواء ولا تراعي الكميات الداخلة فيه، وهذه زبونها الرئيس مشافي الدولة والمواطن المجبر على شرائها لعدم قدرته على شراء الأدوية المستوردة.
التطور الكبير والأبرز والواضح، الذي ظهر في هذه الحارات الجديدة، يتلخص في أن سكان الحارة الأم كانوا يستحون أحيانا و"عالمخفي" يسرقون، أما اليوم فأسواق السنة تملأ ساحات مدن النظام وأسواق الكتائب، وتجار تهريب الآثار والبشر يعملون في الشمس مستغلين صمت العالم، وموقفه المتردد في حسم مآسي السوريين..
كله "على عينك يا تاجر" و"قرب وشوف يا ملهوف" و"على أونة على دوا على ترين" .
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.