التطبيع وأزمة السياسة العربية

ستستمر الأنظمة العربية الحاكمة في الرضوخ للمطالب الصهيونية والغربية في التطبيع، وفي تجاوز مشكلة فلسطين، لكن الشعوب ستظل دائما رافضة لكل هذه السياسات، تماما كما ترفض وتقاوم بكل الطرق الممكنة كل صور الهيمنة والقمع ولا تستسلم للثورات المضادة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/01 الساعة 01:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/01 الساعة 01:42 بتوقيت غرينتش

"نتنياهو قائد ذو قدرات قيادية عظيمة، لا تؤهله فقط لقيادة دولته وشعبه، بل هي كفيلة بأن تضمن تطور المنطقة وتقدم العالم بأسره".

هذا ما نقلته صحيفة معاريف الصهيونية من تصريحات لقادة تنظيمات يهودية أمريكية نقلوا من خلالها عبارات مدح أدلى بها السيسي، خلال لقائه معهم في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وما خفى كان أعظم.

لم يصدر تصريح مصري واحد ينفي هذه العبارات التي لا مثيل لها في علاقات ما بين الدول، ولم نسمعها حتى من السياسيين الأمريكيين المعروف عنهم دعمهم المطلق للإسرائيليين، ولا سيما عشية الانتخابات الرئاسية. فكيف يمكن لحاكم أن يعلن هكذا وعلنا وبدون أي مقدمات أن حاكما آخر يصلح لقيادة العالم كله!! هذه عبارات غير منطقية من الناحية الفعلية والواقعية، وهي تتناقض مع كل الأعراف السياسية والدبلوماسية، ومع أي مقتضيات علمية لأي سياسة خارجية. اللهم إلا إذا نظرنا لطبيعة الحكم في كل بلد، فهناك مشروع إمبريالي عنصري، وهنا نظام قمعي اقصائي.

واقع الحال أن هذا التصريح يكشف عقودا من العلاقات السرية التي تقيمها الدولة الصهوينية وأجهزتها الأمنية مع الكثير من الحكام والمسؤولين العرب السياسيين والأمنيين. وفي السابق قال إيهود ألمرت رئيس الوزارء الصهيوني الأسبق أن الانتقادات الرسمية العربية لدولته تختفي تماما في الغرف المغلقة التي تجمع المسؤولين العرب والإسرائيليين. أما وزير الحرب الحالي موشيه يعالون فله تصريح قريب جاء فيه: "يوجد لدى إسرائيل قنوات اتصال وحوار مع دول عربية سُنية مجاورة ليس فقط الأردن ومصر، بل أتحدث عن دول الخليج ودول شمال إفريقيا، صحيح أنهم لا يصافحوننا بشكل علني لكننا نلتقيهم ونجتمع بهم في الغرف المغلقة".

مر التصريح إذا دون حساب أو مراجعة، وتم إلهاء الناس بتصريح هنا عن تطبيع رياضي أو لقاء هناك بين شخصية مشبوهة والسفير الصهيوني بالقاهرة، وكأن تلك الشخصيات العبثية سيدة قرارها أو يمكن لها التصرف دون أوامر من الأجهزة الأمنية التي صارت تتحكم في البلاد والعباد.

الموقف الشعبي المصري من التطبيع معروف منذ صلح السادات المنفرد، وهو رفض التطبيع والإصرار على أن "إسرائيل" هي العدو، وأن المشروع الصهيوني خطر على مصر وعلى العروبة وعلى الإسلام. والموقف الشعبي المصري من التطبيع معروف منذ ثورة يناير حينما انتفض الشعب وطرد السفير وأغلق السفارة، ومعروف في تضامن كافة القوى الحية المصرية مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة منذ عقود طويلة.

اليوم وبعد موجات الثورات المضادة في المنطقة، وبعد تحويل نضال شعوبها من أجل الحرية والكرامة إلى حرب على الإرهاب وإدخال المنطقة كلها في صراعات عدمية، يراد للمنطقة وشعوبها أن تتخلى عن قضيتها المركزية وتحول وجهتها إلى الإرهاب كعدو واحد للشعوب والجيوش معا.

وهذا اتجاه تدفع إليه دوائر رسمية وبحثية إسرائيلية وغربية، تروج منذ سنوات لمغالطة مركزية واحدة هي أن مشكلة فلسطين ما عادت تمثل قضية مركزية للعرب بعد أن ضربتهم مشكلات أخرى كالصراعات المذهبية والأزمات الاقتصادية والحروب الأهلية، وأنه من الأجدى للعرب الاهتمام بقضاياهم تلك، وترك مشكلة فلسطين باعتبارها مشكلة نزاع على الأرض بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وليست قضية وجود وحقوق مغتصبة حسب كل الأعراف الدولية والأخلاقية والدينية.

ستستمر الأنظمة العربية الحاكمة في الرضوخ للمطالب الصهيونية والغربية في التطبيع، وفي تجاوز مشكلة فلسطين، لكن الشعوب ستظل دائما رافضة لكل هذه السياسات، تماما كما ترفض وتقاوم بكل الطرق الممكنة كل صور الهيمنة والقمع ولا تستسلم للثورات المضادة.

وقد أظهرت استطلاعات رأي مصرية وعربية هذا الأمر، فعلى سبيل المثال أجرى مركز بصيرة استطلاعا للرأي في سبتمبر الماضي جاء فيه أن 88 بالمائة من المصريين يرون أن "إسرائيل" أكثر الدول عداءً لمصر. وفي المؤشر العربي للديمقراطية جاءت "إسرائيل" في المركز الأول من حيث الدول الأكثر تهديدا لأمن الوطن العربي في كل الدول التي شملها الاستطلاع، ومنها مصر والأردن وتونس والجزائر والسعودية والكويت والعراق وغيرها.

الأمر الخطير في اعتقادي ليس تحركات الأنظمة الحاكمة نحو التطبيع، فهذا أمر متوقع منها، وناتج طبيعي لأساس شرعية هذه النظم المستمدة في جزء كبير منها من تحالفاتها الخارجية العلنية والسرية، وإنما في سكوت القوى الحية من كافة التيارات القومية والليبرالية واليسارية والإسلامية، ومن المثقفين وأساتذة الجامعات عن العملية الممنهجة التي تستهدف طمس معالم المشكلة الفلسطينية، وعمليات التشويه التي تمارسها الحكومات منذ سنوات، وذلك بالسكوت والتجاهل، أو بالاستسلام للحكومات والمساهمة في ترويج مغالطاتها، وتبرير هذه المواقف بمقولات الحرب على الإرهاب.

ألا يمكن محاربة الإرهاب ودعم الحقوق الأخلاقية والمشروعة للشعب الفلسطيني في الوقت ذاته؟ أليس ما يقوم به الجيش الصهيوني والعصابات المسلحة التي يشكلها المستوطنون إرهابا؟ أليس الاستبداد والإرهاب وجهان لعملة واحدة، ولا يعيش أحدهما إلا على الآخر؟ أليس المستفيد الأول من الإرهاب هو الحكومات المستبدة التي ترى في الإرهاب مبررا لاستمرار قبضتها الأمنية والقمعية؟ ألا يُستخدم الإرهاب وسيلة للتدخل الغربي في شؤون المنطقة وزرع التناقضات واجهاض كل الجهود الرامية لإخراج العرب من ثالوث الاستبداد والإرهاب والتبعية؟ ألا يمكن دعم إقامة نظم حكم ديمقراطية حقيقية والحفاظ على الدولة ومؤسساتها وجيوشها، وفضح ممارسات "إسرائيل" العنصرية ومغالطاتها الإعلامية وتحالفاتها المشبوهة في الآن نفسه؟

الإجابة بنعم على كل هذه الأسئلة إجابة واضحة، وهي من أبجديات أي سياسة مخلصة تريد فعلا معالجة مشكلات المنطقة من جذورها.

ستظل الدولة الصهيوينة مشروع عنصري وتطهير عرقي، قامت في الأساس على خطة مدروسة بهدف "تطهير" فلسطين من أهلها العرب المسلمين والمسيحيين وتوطين أفراد الجماعات اليهودية المهاجرة إلى هناك، وعلى عمليات إرهاب وتنكيل وقتل وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين، بجانب قتل عشرات الآلاف من العرب من مصر والأردن ولبنان وسوريا والعراق والسودان والجزائر وليبيا وغيرها من الدول العربية. وستظل الدولة الصهيونية هي الدولة الوحيدة التي بها قوانين عنصرية تميز بين سكانها على أساس الدين، وستظل تعبر عن مشروع إمبريالي يمثل خطرا على المنطقة كلها بهُويتها العربية الإسلامية وعلى شعوبها ومؤسساتها وجيوشها.

نشرت في البديل اضغط هنا للإطلاع علبها

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد