حدث ذلك في ستينيات القرن الماضي مع بداية "طلوع الريش" لحافظ الأسد، وقبل بيعه للجولان بسنة ونيف، وقبل دفنه لرفاقه للتمسك بشعارات مواجهة الإقطاع والقضاء عليه وعلى الرجعية العربية من خلفه، وفي الوقت نفسه كان يبني -بالخفاء- أواصر علاقات قوية مع الرجعية وتلميذها الإقطاع السوري!
ويومها كان شعار وحدة حرية اشتراكية وأمة عربية واحدة "خلنج طق بالة"، لم يغسل شحمه، وشعار "بترول العرب للعرب" -الذي لم تكن سورية تنتجه ولا وجود له إلا رمزيًّا من خلال مصفاة حمص التي بنتها "رجعية الزمن الوطني الجميل"- وغير ذلك من شعارات "خلبية" صدقها بعض رفاق (..!!) حافظ الأسد من زمرة البعثيين السنَّة، الذين وضعهم في الواجهة، ليغزل على مهله مشروعه الطائفي النتن، تاركاً لهم الاستمتاع في محاربة الرجعية والإقطاع، وتحمل وزر سوق رموزهم إلى المعتقلات، فيما بقي هو في الظل بعيداً!
ويومها كان خلُّ حافظ الأسد وصديقه (لم نكن نعلم يومها أنهما كانا يتحممان عاريين في حمام واحد حسب ما كتب في مذكراته لاحقاً) مصطفى طلاس المبلقب بـ"أبو نياشين"، قائداً للمنطقة الوسطى، التي تضم حمص وحماة ومناطقهما الكبرى، ومنها تدمر بسجنها الشهير.
ويومها.. في الرقة، تلك القرية الكبيرة كما يصفها أهلها، قام البعث -في إطار حملته على الرجعية وأذنابها الإقطاعيين!- باعتقال مناوئيه بالجملة -بعضهم شباب كانوا بالأمس رفاقاً، وبعضهم شيوخ عشائر لم يقبلوا طأطأة رؤوسهم أمام "العجيان البعثية" الذين تم اختيارهم من سقطية العباد، وتم تجميع المعتقلين في باصات "الهوب هوب" العتيقة واقتيادهم إلى سجن تدمر، الذي كان مخصصاً للهاربين من الخدمة الإلزامية!
لم يطل اعتقالهم طويلاً في سجن تدمر، فقد تمكن من "نفذوا بريشهم" من الاعتقال من الوصول إلى "أبو نياشين" (لقب من ألقاب كثيرة لطلاس) ودفع المعلوم -وكان مقدوراً عليه- فأمر "أبوصطيف" بنقلهم من سجن تدمر إلى مشفى في مدينة حمص، واعداً بفمه الملآن، بالتدخل مع القيادة!" لاستصدار أمر بالإفراج عنهم وعودتهم إلى بلدتهم.. وبهذا الوعد مدفوع الأجر يكون "أبوصطيف" قد دشن ورسخ أول تطبيق لمفهوم أن "المعتقل دجاجة تبيض ذهباً" الذي سار على هديه كل ضباط الأجهزة الأمنية اللاحقون بدءاً من محمد الخولي وناجي جميل وعلي دوبا، وليس انتهاءً بحافظ مخلوف وجميل حسن وعبد الفتاح قدسية وشبيحة أسواق السنة، وغيرهم من قتلة السوريين اليوم.
المهم وبلا طولة سيرة.. وصل خبر نقل زينة شباب الرقة وشيوخها من تدمر إلى مشفى في حمص، فشدت الرحال على عجل.. وامتلأت "طبونات" السيارات والباصات بالسمن والجبن (البرطيل المعتمد لدى أهل الرقة لشراء ذمم المسؤولين في ذلك الزمان) وعمرت الجيوب بأمهات الطربوش (ورقة الخمسمائة ليرة يوم كان للطربوش قدر وقيمة)، وأرض تودعهم، وأرض تستقبلهم، إلى أن حطت سيارات المرسيدس اللف "الكربوجة" الصغيرة، التي إن جلس اثنان في كرسيها ضربت أرجلهم بعضها ببعض وتخانقت، فما بالك إذا زاد السمن والجبن "بن سنتو" على حمولتها، وخلفهم باص للعفش وبقية تنك الجبن والسمن!
وصل الركب إلى حمص مع "جهجهة الضوء"، وامتلأت الساحة المواجهة للمشفى بالركب الكبير، إذ يومها كان الحب يجمع الناس.. ركب جمع الجدات والأجداد.. الأمهات والآباء.. الإخوة والأخوات.. العمات والأعمام.. الخالات والأخوال.. وقبلهم الجيران الأحبة..
وصل الجمع صباحاً وتناثروا في المكان الواسع ينتظرون صدور موافقة الزيارة.. غفا البعض.. والبعض الآخر تجمعوا وقوفاً وضباب سجائرهم يغطي المكان.. والبعض استنفر بحثاً عن محال الصندويش لإطعام الجمع.. وخرجت من بيوت جيران المشفى أباريق الشاي ودلات القهوة التي ليس غيرها يعدل الرؤوس بعد السفر الطويل.. "كاسة الجاي اللي تسوى ذهب في تلك الساعة"!
غفا البعض بعد بل ريقه بالماء والشاي، والبعض الآخر"اصطمخ" بكاسة الشاي.. مرت الساعات والعيون مصوبة على باب المشفى الواقف أمامه عسكر بقبعات حمراء وبنادق يذهبون ويجيئون، وكلما اقترب منهم أحد يريد أن يسأل: استنفروا وأنزلوا بنادقهم عن أكتافهم وصوبوها نحوه:
– ارجع لورا ممنوع تتقدم.. لسا ما إجت الموافقة!
وكيف لا يصوبون البنادق ومن في الداخل رجعيون إقطاعيون أعداء لثورة آذارهم المجيدة!
بعد ساعات.. جاء من همس بأذن المجند وذهب.. استنفر الجميع.. أيقظوا من سرق "هفة" نوم.. استعدوا.. عدلوا العقل (جمع عقال).. رتبوا الكوفيات.. عدلت النساء هباريها.. تزاحموا على مبعدة من الجندي الذي يؤشر لهم أن لا يقتربوا.. شاور الجندي زميله.. واقترب من الجمع آمراً بصوت مرتفع ومؤشرا:
– الحريم على هالجنب والرجال عالجنب التاني..
بسرعة البرق امتثل الكل.. تراصوا كل على جنبه، وكل جنب رتب نفسه حسب درجة القرابة، وكانت الجارات والجيران في مقدمة كل جنب قبل الآباء والأمهات.. كان الجار أخا عزيزاً يومها!
إي سيدي.. بلا طولة سيرة.. تنحنح "العنصر الفرتوك".. وبعالي الصوت:
– وينكن بلا خربطة.. النسوان بيتقدموا والرجال يظلوا لسا ما إجت موافقة زيارتهن!
تدافعت النسوة.. ومعهن اندس عمي عبد الهادي -رحمه الله- متقدما جمعهن بكل ثقة.. انتبه العنصر الفرتوك فصرخ عاليا:
– يا عم قلنا لكم الرجال ما إجت موافقتهن.. شو ما بتفهموا؟
تقدم عمي منه وبصوت مسموع أطلق حكمته وهو يشير إلى الرجال تارة وإلى شاربه تارة أخرى:
– يا ابن أخوي إحنا إللي نفهم.. شايف هدول لباسة العقل.. وشايف عمك وشواربو البيضا.. يا ابن أخوي لا تنغش.. كلنا هاللي جدامك (أمامك) نسوان.. حريم على قولتك.. الرجال يا ابن أخوي عندكم جوه (في الداخل)!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.