يُحكى أنَّ | باب ما وراء الشمس “2”

ان مصدراً لسعادتنا ونكاتنا، وكنا بالنسبة إليه عالماً غريباً لم يعتده، كانت معنوياته تصعد وتهبط بشكل غريب ومفاجئ، لكنه كان محل حب واحترام الجميع لطيبته وبساطته وحسن معشره، بعد شهور عديدة يخرج محمد إلى النور وسط فرح أهله فرحاً لا يُوصَف، لقد عاد إليهم أخيراً ابنهم، فليطووا هذه الصفحة إلى الأبد، شهران تقريباً وتجزع أسرته من مصابها الجديد.. محمد مات إثر نوبة قلبية.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/26 الساعة 08:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/26 الساعة 08:50 بتوقيت غرينتش

الاعتقال هو مصل الاعتقال، عندما يمارس المعارضون للنظام معارضتهم، فإنهم ومهما أوتوا من شجاعة، يظلوا في هيبة شديدة من الاعتقال، إنهم يسترجعون كل ما كتب عنه، ويتخيلون ما يمكن أن يقع لهم، ينتصرون على هذا الخوف أحياناً، وينهزمون أخرى، وفي كل الحالات يبقى الاعتقال هو العفريت الذي ينتظرون أن يخرج لهم يوماً ما.

ولذا فإنهم ما إن يقعوا فيه حتى يزول سحره، وتتبدد المخاوف منه، لذلك لم يكن غريباً أن نقول جميعاً، "ياه هو دا بقى السجن.. هو دا بقى الاعتقال"، ولاحقاً ينقسم المعتقلون إلى نادمين لا يعودوا أبدا إلى معارضتهم، وآخرين تزداد قوتهم بما حصلوا عليه من خبرة، باعتبار أن الاعتقال الذي لا يقصم ظهرك يقويك، ولذا فإنَّ أفضل من يصنع المقاومة والمعارضة وحتى الإرهاب هم رجال الأمن في معامل الاعتقال.

كنا نسير وراء الشاويش الذي تسلمنا من عند الباب الخارجي، سمين وقصير، يرسم على شفتيه عنوة ابتسامة النصر وكأنه خارج من المعركة لتوّه، يتقدمنا ليعرفنا بالمكان كما لو أنه دليلنا السياحي، يشرح لنا أن أبو زعبل هو مجموعة من الزنازين الضخمة، التي تضم كل زنزانة منه زنازين أخرى داخلها، ولتصل إلى مبتغاك عليك أن تدخل من واحدة إلى أخرى، وعلى كل واحدة حراس غلاظ شداد.

كنا ننصت باهتمام ونحن نحاول أن نصلح من هيئتنا بعد الصفعات التي نالتنا على أيدي حماة الوطن، إلى أن وصلنا -وكنا قبيل المغربـ إلى مجموعة زنازين كتب عليها قسم الأشغال الشاقة، فقال لنا الشاويش هذه نصيبكم، أنتم هنا إلى الأبد، دبت الرعشة فينا، "يا نهار أسود"!.. صحنا جميعاً.

دخلنا نحن الخمسة القادمون من الإسكندرية -وبعد استبعاد اليساريين من عند البوابة الرئيسية- لنجد سبعة من أبناء القاهرة، أدركنا لاحقاً أن بعضهم لديه خبرة سابقة في الاعتقال، الزنزانة تسع لحوالي خمسة عشر شخصاً، ونحن الآن أثنا عشر فلا بأس إذن، رائحة الطلاء تغطي الأنحاء، فقد كان هنا سجناء جنائيون تم ترحيلهم على عجل إلى قسم آخر وتجهيز الزنازين للسياسيين.

توضأنا وصلينا، ثم جلسنا نتعارف، كنا نغالب بالضحك مخاوفنا، صاح صديقي أحمد النحاس فجأة "يا جماعة لا تقلقوا، إذا كان سجننا ضمن قضية وليس اعتقالاً فإني أعرف محامياً يمكن أن يدافع عنا مجاناً، فسأله قاهري، ما اسمه، رد: "مختار نوح"، فعاود القاهري: "هل تعرفه"، أجاب صديقي: "لا، ولكن أعرف من يعرفه"، فرد القاهري وهو يشير إلى أحدهم مبتسماً: "متتعبش نفسك.. هو موجود معانا أهو".

لا أظن أنني ضحكت يوماً في حياتي مثل هذا اليوم، كنا نصمت ثم ننفجر ضاحكين على ما وقع، كنا نكتشف عالماً جديداً لطالما سمعنا عنه، وها هو السجان يطرق الباب بشدة معلنا وصول الطعام الذي لم أذقه منذ الليلة الماضية، لم نترك صغيرة ولا كبيرة إلا كنا نضحك عليها، من يشاهدنا يظن أننا في رحلة كشفية، سمعت كثيراً عن الفول الذي به سوس، وها هي الفرصة تسنح للمشاهدة، صاح أحد ذوي الخبرة "كلوا دون أن تنظروا".

مرة أخرى التفتنا جميعاً ناحية الباب، ثمة جلبة تقع عندما يضع الحارس مفتاحه فيه، دخلت مجموعة جديدة، لا بأس، استقبلناهم وأجلسناهم، ثم بعد قليل دخلت مجموعة أخرى، فأخرى، حتى وصل عددنا إلى اثنين وسبعين شخصاً، كدنا نختنق.

انتصف الليل حين دخل علينا ضيف بمفرده، رجل كبير في العمر، التقط أحد ذوي الخبرة الاسم حين لفظه السجان، إنه والد خالد الإسلامبولي المتهم باغتيال السادات قبل يومين، انقسمنا، رأي يقول إنه مخبر دُسَّ بيننا لينقل أخبارنا، فكيف لوالد قاتل السادات أن يُزَجَّ به ضمن عامة المعتقلين من أمثالنا حيث ليس بيننا لا قائد ولا زعيم ولا سياسي وكلهم في قسم مختلف؟ ورأي آخر يقول إن هيئة الرجل لا تدل على أنه مخبر.

قال أحدهم دعوني أنفرد به، ثم توجه إليه، سأله إن كان قد أكل شيئاً، نفى لكنه طلب أن يمهد له الطريق -بين جموع المعتقلين المحشورين- إلى الحمام حتى يتوضأ ويصلي، ففعل، ثم جلس يأكل بعض اللقيمات التي جمعناها له، ثم سأله صاحبنا، كيف لابنك أن يرتكب ما أرتكب، فرد الرجل باقتضاب شديد، أبني مسلم يعي معنى لا إله إلا الله، عاد إلينا مبعوثنا ليقول لا مخبر بوسعه أن ينطق ذلك، إدارة المعتقل أدركت فيما يبدو خطأها، فسحبته من بيننا قبيل الفجر.

كان الضجيج لا يُحتمل، جلست مقرفصاً أفكر، اثنان وسبعون شخصاً في زنزاتنا وحدها، اثنان وسبعون عائلة لا تعرف أين ابنها أو عائلها، اثنان وسبعون من شتى أنحاء مصر، مثقفون وأميون، أساتذة جامعات وعمال وفلاحون، نماذج مختلفة ومتناقضة ومتباينة، مصر كلها كانت في زنزانتنا.

عجوز نحيف أتى به من المستشفى وكان يُجري عملية البواسير، كان يتألم بشدة، كنا نجمع قصاصات الورق وأي شيء على أرضية زنزاتنا الأسمنتية لنشعله لتسخين ما يوازي كوب ماء يمكن أن يستخدمه في الحمام بديلا عن الماء البارد.

عجوز آخر، سمين جداًّ، ملابسه توحي أنه من البسطاء، لا أظن أنه قرأ يوما جريدة أو تابع خبراً سياسيًّا، تندهش كيف أوتي به هنا، كان يصرخ فينا دائماً ويتهمنا بأننا أولاد صغار نضحك فرحين بالسجن، لكنه أفضل حالاً من هذا الرجل الريفي الذي كان إماماً لمسجد في قريته، وهو لا يعرف سبب اعتقاله، كان يقول ما من خطبة جمعة إلا وختمتها بالدعاء للسادات، فكيف أنا هنا؟

كان غريب الأطوار جدًّا، بعد صلاة الفجر يخلع جلبابه ويبقى بهذه الملابس الداخلية التي يرتديها الفلاحون عادة تحت الجلباب، ثم هو يتشاجر مع أي منا لأتفه الأسباب، حتى بتنا جميعا نتجنبه، فعلاً لو قلت له صباح الخير قد يصرخ فيك، كنا نقضي اليوم في انتظار أي جديد، يٌنادى على بعضنا فيخرج ولا نعلم إلى أين، ثمة أحداث أو معتقلون جدد يأتون بأخبار جديدة من العالم الخارجي، لذا يبقى الرجل في ارتباك وعصبية شديدتين في انتظار أي خبر يخرجه من هنا.

فإذا ما حل المغرب، وتوقفت الحركة خارج الزنازين، ويأسنا جميعاً أن يحمل اليوم خبراً جديداً سعيداً، توضأ الرجل وارتدى كامل ملابسه وتحول إلى شخص آخر تماماً في غاية التهذيب، ثم هو يطلب أن يخطب فينا عقب صلاة المغرب، فإذا هو يحدثنا عن الصبر وتحمل الأذى وجزاء الصابرين، بالفعل كانت خطبه مؤثرة جدًّا وبليغة جدًّا، ويبقى هكذا.. شيخاً إماماً لطيفاً بين النصيحة والمزاح، إلى أن يحل فجر يوم جديد فيعود إلى الشخصية الأولى.

ومن الريف أيضاً كان هذا الرجل الذي كان يضحك قائلاً، أنا مخبر، كنت أبلغ عن أمثالكم، لكني استقلتُ واهتممتُ بتجارتي في القرية، وقد أثار ذلك العمدة فبلّغ عني بصفتي واحداً من الإرهابيين.

أما سيد ابن البلد الجدع، فقد كان أشبه بماكينة إضحاك، وكان يجد لذته في السخرية من الشاويش عندما يحل المساء ويدخل زنزانتنا ليسلِّم زميله الذي سيتولى الحراسة مساء المهمة، فيبدأ في عدنا، ولأننا كثر، اثنان وسبعون في زنزانة ضيقة فإنه كان يتعثر دائماً.

كان سيد يستغل الفرصة فيتحرك من جهة إلى أخرى فيكتشف الشاويش إما زيادة أو نقصانا في العدد، فيبدأ العد من جديد، ويوماً اكتشف ذلك الشاويش، فقال لزميله "استلم مني ولا تخش شيئاً، وإذا وجدت بعد ذلك نقصاً في العدد فإني كفيل بسده"، وظللنا نسأل أنفسنا كيف يمكن له أن يسد نقصاً في العدد، هل يأتي بأحدهم من الشارع؟

كان في الزنازين المجاورة طفلان، نعم طفلان، عمر كل منهما حوالي اثني عشر عاماً، تشعر أن كلاً منهما يعيش في سجن داخل سجن، إنهما مع أناس لا يعرفانهم، يكبرونهما بسنوات كثيرة، وثقافات مختلفة، وهما لا حول لهما ولا قوة ولا أي انتماء سياسي بالتأكيد، كان وجه كل منهما دائماً شاحباً، يعيشان حالة من الذعر يرقبان كل حركة على أمل أن يأتي المنادي ليقول ما هذا العبث؟ من أتى بكما إلى هنا؟ اخرجا فأنتما حرَّان.

وكان أيضا بين الزنازين التي يشملها قسمنا شابان لديهما اضطربات عقلية، لا نعرف كيف زُجَّ بهما معنا، كل الوقار على هيئتهما ما لم تنتابهما الحالة، كانت إدارة السجن تطلق أحدهما ليسير بين زنازين القسم لتهدئته، ثم تدفع به إلى زنزانته وتُخرج الآخر.

أحدهما أصر يوم جمعة أن يَأُم في زنزانته المعتقلين الذين كانوا يرون أنه لا جمعة للأسير، ولما هاجت حالته قال بعض الحكماء استديروا ناحية القبلة ومثلوا أنكم تنصتون لخطبته، ثم بدأ الشاب خطبة بلغة عربية فصحى، الشاب المريض الآخر الذي كان مطلقاً بين الزنازين سمع صوت صاحبه، فأتي إلى باب الزنزانة المغلقة وأمسك بقضبانها ووقف يسمعه.

الشاب احتدَّ في خطبته إلى أن قال صارخاً "يا أيها الناس احذروا فتنة النساء"، فما كان من الآخر الواقف على باب الزنزانة إلا أن صرخ فيه، "يا ابني إزاي دول هما الخير والبركة"، ولا تسل عن بركان الضحك الذي انفجر من نزلاء الزنزانة.

كان معنا أيضاً محمد، شاب بسيط جدًّا، وحيد والديه، عائلته ثرية، لم تكن له أي اهتمامات سياسية، ولم يكن يقوم بفرائض الدين بحسب ما قال لنا، يقضي حياته في المرح واللهو فلما ملَّ، ولما كان يوماً مارًّا بمصلى تحت بناية، قرر أن يدخل ويكتشف هذا العالم الآخر، ولحظه العاثر كانت هذه الزاوية كما نسميها في مصر تابعة لتنظيم الجهاد الإسلامي.

رحب به المصلون الشباب والتفوا حوله يتعرفون إليه.. عائلته وعنوانه، ويدعونه إلى أفكارهم، غادر محمد المصلى ونسي الموضوع، وما هي أيام إلا والأمن يداهم أعضاء التنظيم، وتحت صنوف التعذيب وسؤال الضحية عمن يعرف من أسماء، تذكر أحدهم أخانا محمد فأبلغ عنه، وما هي إلا ساعات وكان محمد سجيناً، وسط ذهول أهله، لكن لأن الأمر كان سجناً على ذمة قضية وليس اعتقالاً، فقد تولى أحد المحامين الدفاع عنه وإثبات أنه شخص بريء مسالم صالح بدليل أنه لا يصلي ولا يصوم، وبرِّئ محمد وخرج إلى حياته وليداً جديداً وقرر ألا يمر من أمام هذه الزاوية حتى وهي مغلقة.

ولأن الأمن عندنا كما سبق وذكرت لا يغفر الذنوب ولا يسامح عن الماضي، ولأن اسم محمد نُقش من ذهب على صفحات الداخلية فقد أوتي به ضمن حملات الاعتقال التي أعقبت قتل السادات ليشاركنا زنزانتنا وهو مريض القلب، كان أكثرنا هلعاً ونحن نسمع أصوات التعذيب تأتينا عن بعد، فيما الليل يزيدها خوفاً وترهيباً، وفي أحد الأيام، وعندما وصلتنا أولى وجباتنا ظهراً، دخلنا في نقاش طويل حول هويتها التي لم نتعرف عليها، نادينا على السجان فأكد أنها لحم، إلا أن محمد رفض تناولها، وقال ببساطة شديدة وبنبرات صادقة: وكيف أعرف أنها ليست لحم الإخوة الذين كانوا يعذبون بالأمس ونسمع صراخهم؟

كان مصدراً لسعادتنا ونكاتنا، وكنا بالنسبة إليه عالماً غريباً لم يعتده، كانت معنوياته تصعد وتهبط بشكل غريب ومفاجئ، لكنه كان محل حب واحترام الجميع لطيبته وبساطته وحسن معشره، بعد شهور عديدة يخرج محمد إلى النور وسط فرح أهله فرحاً لا يُوصَف، لقد عاد إليهم أخيراً ابنهم، فليطووا هذه الصفحة إلى الأبد، شهران تقريباً وتجزع أسرته من مصابها الجديد.. محمد مات إثر نوبة قلبية.

أسعد طه

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد