تضطرني دواعي العمل إلى الاستماع إلى خطب قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي المتعاقبة، ودواعي الحياة لمتابعة أخبار جماعة الإخوان، وبقدر ذهولي مما يقول مرة بعد أخرى، فإن أفعالاً تصدر عن قيادات باقية على قيد الحياة بعيداً عن السجن تصيب المرء بالعجب.
وفي الحالين تترسب داخل النفس قناعة واضحة أذكرها لاحقًا في السطور القادمة.
وإن كان السيسي أبدع في خطابه الأخير الخاص برؤية مصر 2030، الأربعاء الماضي، ومع طوفان الاستهزاء الذي ناله الخطاب حزّ في نفسي بقسوة أن الرجل ما يزال يحكم مصر، ودار فيها أن الرئيس المخلوع مبارك كان يجلس فوق عرش مصر.. فوق ظهر حصان يريد أن يبقى عليه، ولذلك مع ظلمه الشديد للمصريين كان يتحلى بشيء من المنطق والعزة ليس كثيراً.ولكن يبدو أكثر من "كثير" لما تتم مقارنته بما يفعله السيسي.
فإننا وإن كنا أمام رجل يمثل نسخة رديئة من أفلام ومسرحيات مصرية سخرت من الطغاة، من "لمبي" محمد سعد بأجزائه، إذ إنني أميل مع القائلين بأن مختلف أفلام محمد سعد أجزاء من الفيلم السابق الذكر، قائد الانقلاب يتمثل "سعد" بالإضافة إلى أعمال أخرى رديئة في مقدمتها جنون الراحل "معمر القذافي" الرسمي، وهو جنون سينمائي بجدارة حرص على أدائه بكبرياء حتى آخر خطبه..
وإن كان الأخير وصل إلى حافة هذا الجنون بعد أكثر من ثلاثة وأربعين عاماً من حكم ليبيا والتحكم في مقدراتها وإمكاناتها لدرجة وصلت إلى أن يُعلم "سيلفيو بيرلسكوني"، رئيس الوزراء الإيطالي السابق، حفلات الجنس الجماعي، ثم يقف في "بجاحة" يُحسد عليها ليقول في نهاية حكمه وحياته: إن ليبيا تمثل المجد والحضارة، وهلم جراً..
ولكن السيسي لم يلزمه إلا عامان فقط ليقول نفس كلمات القذافي من "أنتوا مين؟"، و"أنتوا ما تعرفوش مصر كبيرة قد إيه"، وكأن مصر لديه "غوريلّا" ستلتهم أعداءها التي "سيشوطهم".. ومع كون الفارق بين السيسي نفسه ومصر التي يهدد بالْتِهام أعداءها غير واضح.. بما يعني حالة من تضخم الذات المميت، وفي مقاطع الخطاب الأصلي، فوق المنصة، ما يوضح هذا، أو البقية، أسفل المنصة وهو جالس معطياً ظهره كعادته للمصريين، من المقاطع ما يقف الخيال أمامه مشلولاً غير قادر على الإجابة عن سؤالين على الأقل:
كيف خدع هذا "المعتوه" الرئيس محمد مرسي فجعله وزيراً؟
كيف يمكن لشعب مثل الشعب المصري الاقتناع لثانية بمثل هذا "المأفون" رئيساً لحي لا للجمهورية؟
وأنا أقصد بالمصريين الجانب المخدوع منهم.
على أن الأمر فيه معطيات أخرى لمن يبالغون في إبراز كلماته عن "بيعه" نفسه، و"لا تسمعوا لأحد غيري"، "أنا بكلم نفسي مش الحكومة"، على أن الأمر فيه معطيات أخرى، لو ندري!
(1)
إذا ما جاء "مجنون" ونجح في احتلال أرضك وبيتك، ثم بعد تمام الاحتلال وقف يشيح بسلاحه في الشارع أمامه مستميلاً الجيران، مشتغلاً شغل "الثلاث ورقات" لإرهابهم وإقناعهم بأن بيتك بيته، نجح أم لم ينجح في عمله، وهو في حالتنا ناجح إلى حد ليس بالقليل، فإنك إذ تبالغ في الضحك من كلماته، ولزماته، ولفتاته، فإنما أنت تبالغ في الضحك على نفسك أنت.
هذا المعتوه مستمر في حكم بلدك ما يزال، وأنت لا تعرف مجرد "خاطر" يعيدك إليها بعد أن "نزعك" من حكمها، وتعجلت إلى النزول بكامل ثقلك في معركة سياسية لم تكن أهلاً لها، بحال من الأحوال، ولكن طمعاً من نوع ما قادك إلى الهلاك، والقائل بأن طمع جماعة الإخوان في أمر الرئاسة مشروع.. يحيل الأمر كله إلى درب من الجنون، فماذا إذا كنا نتحدث عن جماعة لها صلة برب العزة، وفق أدبياتها المعروفة، إذا كانت ترتكب هذه "الحماقة" -وأعتذر عن اللفظ- ثم تجد الذين يبررون من بَعدُ لها، والحال لا يخفى على أحد في مصر..
إن السيسي الذي نمعن في السخرية منه يحكم مصر لم يزل، وإنه حتى إنْ سقط فإننا غير قادرين -كصف ثائر من الأساس- على القيام بها لسنوات على الأقل من بعده، وإن بلداً بحجم وقامة مصر يتعرض إلى تيارين يزلزلان كيانه.. السيسي الانقلابي الخائن، وجماعة الإخوان التي كان مرجوًّا منها أن تكون أكثر حنكة وتعقلاً وصلة بالله تعالى من الانجرار خلف التسرع والقرارات غير المسؤولة التي هوت بها في هاوية قرارها ما يزال بعيداً..
إن الجماعة التي تقارن السيسي بالرئيس محمد مرسي، في جميع الأمور، لا تستطيع أن تفهم الأمور على حقيقتها.. فالمسار الأول بالنزول إلى معترك الرئاسة كان بالغ الخطأ.. وما أفرخ هذا الخطأ الأول سوى أخطاء أبرزها اختيار السيسي نفسه، ولله در جماعة فعلت هذا الأمر مع "جمال عبدالناصر" من قبل وما تزال تسير سيرها.. من آسف غباء في مواجهة خيانة!
(2)
اللحظة الحائرة الفارقة في مصر الآن لها -لدى صاحب هذه الكلمات- أصل عام يندرج وراءه ظل ليس أقل منه أهمية، الحقيقة تقول بأن مصر تم جرها جرًّا إلى الهاوية بفضل "غباء" بعض قيادات أكبر جماعة منظمة فيها كانت تلاحق المؤسسية، وبفضل خيانة حفنة من الأقذار لجيشها، ولكن تمام الأزمة أن مصر التي هي على الحافة لم تسقط، والعياذ بالله، كما في غيرها من دول عربية معروفة، كما أنها لم تعد في مكانها كما في دول أخرى تعاني الظلم منذ قرون لا عقود، مئات السنوات لا عشرات، ولكنها قادرة على البقاء..
أو فلنَقُلْ يتم جرَّها إلى غيره لكن ببطء.. وقد يحدث أن تجد صخرة من قليل رخاء أو تفهم حاكم.. أو قهر أو إرهاب حكم يمنع دون وصولها الهاوية.. والأمر في مصر وصل إلى الحافة ولم تسقط مصر.. وهي اللحظة التي تحمد لعقلاء من الوطنيين والإخوان.. عدم التصعيد إلى الحد الذي يؤدي إلا الاحتراب الأهلي، كما أن الأمر -لدي- له علاقة ببعدين: طبيعة الشعب المصري الزراعي المُسالم، وقدرة السيسي على خداع جزء غير قليل منه، وسل عن الشركة الأميركية الإعلامية التي يدفع لها الملايين من خزانة الدولة لتحسين صورته.. فيما الإخوان يتخاذلون في الأخذ بيد بعضهم بعضا!
(3)
إن الأزمة الحقيقية ليست في السيسي، وإن الأزمات لا تقاس بلحظتها الراهنة بل بأفق الحل الذي يلوح في الأفق، وإن جماعة تم نزع الغطاء عنها مؤخراً في ظروف استثنائية، ومع احترامي الكامل للشهداء والمعتقلين فإن قادة في المهجر باقين يجعلون المرء يُسلم بأن كمًّا من الفساد وصل بالفعل إلى قلب الجماعة.. بل يأكل كبدها، وإن تداولاً للسلطة عبر نظم الانتخاب والشورى التي أقرتها الجماعة تتبرأ منها قيادات تم انتخابها وأخذت معها "سلم" الانتخاب لأعلى.. أما لماذا يتم ذكر هذا الآن؟ فإنه في نفس صباح خطاب السيسي الأخير "الخميس الماضي"..
ثارت أزمة لا أعتقد أنها مسبوقة على هذا الحال بين صف الإخوان والقيادات في أكبر دولة تحتوي قيادات للإخوان بعد الانقلاب.. أما السبب الواضح فهو أن قيادات أكثر ديكتاتورية لا تريد أن يسألها أحد، مجرد سؤال، عما تفعل، ولماذا تستولي على أموال للجماعة بدون وجه حق؟ فلا تكاد تجد مجرد جواب، ويتهرب المسئولون على نحو يُشكك في مصداقيتهم.. ويتعب الذين يتعقبون الأمر، والواضح أن الانقلاب لم يبرز أسوأ ما في الجماعة بل إن أسوأ ما في الجماعة قادها إلى الانقلاب!
(4)
أما الحقيقة التي أراها الآن، فإن السيسي والإخوان كلاهما في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ مصر، واللحظات التاريخية قد تستغرق سنوات، وإن دار السيسي والإخوان، في دائرة من غلبة الخيانة والغباء، وأقول غلبة فلا أنكر أن هناك عقلاء في الطرفين، لكن القادة الباقين هنا وهناك ومع الفارق يعانون من سوس ينخر منذ فترة ليست بالقليلة، والخروج من الأزمة أمر بالغ الصعوبة فهذا لديه سلاح.. وذلك ما يزال يتحلى بالفرقة وعدم إدراك عظيم مسؤولية اللحظة..
فإن كانت السلطة في ديننا الحنيف مَغْرماً لا مَغْنَماً، فإنها في وقت الأزمات مسؤولية غير محدودة.. فلماذا لم يتصدى للأزمة المسئول الأساسي عنها؟ ولماذا تمادى في الأخطاء؟ مضيعاً المال والكوادر البشرية ولا يقبل أصلاً بمجرد المساءلة لا المحاسبة..
إن الأمر لدى كاتب هذه السطور لا يعدو إلا أن يكون "صدمة" لم يفق منها الطرفان فلا السيسي الانقلابي يكاد يصدق أنه استطاع حكم مصر بما فيها من إمكانات ومقدرات.. ومن فيها من بشر وقدرات، رغم صعوبة الأمر على قزم مثله، ومن ناحية فإن جماعة الإخوان، وقد تمكنت من حكم مصر لمدة سنة وانتزاع الحكم منها ولم تستطع الحفاظ عليه لأسباب تتعلق باستعجالها الحكم دون امتلاك لأدواته.. إن الجماعة نفسها تتأخر عن الأخذ بأسباب الإفاقة ما تأخرت من قبل بالأخذ بأسباب الحكم.. بالتالي لا "تصدق" الجماعة اللحظة الحالية ولا تستطيع استيعابها، وما بين الطرفين، مع التسليم بإجرام الانقلابي منهما.. لكن مع عدم إبراء ذمة الإخوان من الخطأ.. فإن الحقيقة لدي تخبر بأن الطرفين لم يفيقا بعدُ من أزمة حكم مصر، وإن مصر وشرفاءها بل بلاد العرب والمسلمين لتنتظر إفاقة الطرف الأكثر تعقلاً وشرفاً منهما ليجعل الله على يديه بداية فرج لهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.